اللواء مهندس جابر شعراوي أحد ابطال موقعة كبريت

admin

ادارة المـنـتـدى
طاقم الإدارة
إنضم
17 أغسطس 2024
المشاركات
134
مستوى التفاعل
12
النقاط
18
العمر
34
الإقامة
EGYPT

مزاجك اليوم

اللواء مهندس جابر شعراوي - أحد ابطال موقعة كبريت

U6nt2itled.jpg




اللواء مهندس / جابر أحمد الشعراوي

اللواء 130 الكتيبة 603



نطالع في هذه الصفحة من صفحات البطولة في حرب أكتوبر1973 م ، مذكرات بطل من أبطال موقعة الصمود العظيم في نقطة كبريت ، التي صمد فيها أسود جيش مصر ، وانتصروا رغم الحصار القاسي الذي تعرضوا له أثناء الحرب .

وإذا كنا لا نشك لحظة في عزيمة ، وإصرار ، وبسالة جنودنا ومقاتلينا ، أسود المعارك ، فإننا عندما نـقـرأ مواقـفهـم وبطولاتهم نزداد ثقة أنهم لا يعرفون المستحيل ، ولا يقبلون بالهزيمة ، فهم خير أجناد الأرض ، كما وصفهـم محمد صلى الله عليه وسلم ، وشعـارهم دوماً "النصر أو الشهادة" . فإلى ذكريات البطل :
  • نشأتي وتعليمي :
ولدت يوم 17 / 12 / 1949م بمحافظة الإسكندرية ، وعشت مرحلة طفولتى ، كأي طفل مصري ، بداية من الحضانة ، ثم الابتدائية ، ثم الإعدادية ، ثم الثانوية العامة ، وصولاً إلي دراسة علم الهندسة ، وعلم الحرب معاً ، في الكلية الفنية العسكرية .

ولطالما ظلت الاسكندرية مدينتي ، خلال تلك المرحلة من عمري هادئة وجميلة ، ليس فيها الزحام الموجود حاليا . وكانت الحياة تمضي سهلة ، وبسيطة ، وثرية بدفء العلاقات الاجتماعية بين الجيران ، والأقارب ، والأصدقاء .

وكانت مراحل التعليم جميعا في ذلك الوقت ، مطعمة بالكثير من الأنشطة الرياضية ، إلى جانب التعليم ، وتميز المدرسون بالإخلاص ، والمهارة في تبسيط المناهج الدراسية ، وشرحها بشكل وافٍ ، يحقق توصيل المعلومة للطالب ، ولم يكونوا يبخلون علينا ، ولكن يعطوننا كل ما لديهم خلال الدرس .

وكنت قد بدأت نشاطي الرياضي في المرحلة الاعدادية ، وتحديدا في ألعاب القوي ، مثل الجري عبر الحـواجـز ، والملاكـمة والمصارعة ، وتفوقت فيها ، وشاركت في مسابقاتها .

ومن أساتذتي الذين تركوا أثراً في حياتي ، ولم أنسهم حتى الآن

مدرس التاريخ بالمرحلة الابتدائية ، الذي كان يشرح لنا المنهج بالتفصيل ، ويوسع آفاقنا بمعلومات إضافية من خارج الكتاب . وأيضا مدرس الرياضيات بالمرحلة الاعدادية ، وكان ممن يؤدون رسالتهم علي أكمل وجه . وكان كل مدرس في ذلك الوقت يعلمنا ويزرع فينا لا شعورياً صفات الرجولة ، وأحاسن القيم والأخلاق ، ومن ضمن ذلك ، أن الصهاينة اليهود الغاصبين هم العدو الأول والأخير لمصر .

وبدأ ارتباطي بالعسكرية في المرحلة الثانوية ، حيث كانت مادة التربية العسكرية مقررة علينا تحت مسمى "الفتوّة" ، وكنا نتسلم في بداية العام الدراسي ، زياًّ مدرسياً موحداً ، عبارة عن قميصٍ لبني اللون ، وبنطالٍ كُحلي ( أزرق داكن ) اللون ، وحذاءٍ عسكريٍ بنصف رقبة . وكان من يدرّسون لنا المادة ، ضباطاً وصفَ ضباط ، فكانت روح العسكرية ، والوحدة الوطنية تشيع في المدرسـة ، وأطلق عليّ زملائي لقب "رقيب أول" المدرسـة فكنت أشارك مع زملائي من الشرطة العسكرية المدرسية ، في تنظيم طابـور الصباح ، وتحـية العـَلـَم بالسلاح ، ولكـنه سـلاح صغـير ( بندقية موريس 5,6 مم ) ، نتسلمه يومياً من السلاحليك ( مخزن الأسلحة ) في المدرسة ، ونعيده بعد انتهاء الطابور ، إلى السلاحليك ، الذي كان يحوي سيوفاً أيضاً بالإضافة للبنادق .

وكان لنظام الفتوة دوراً كبيراً في تربية الطلبة علي روح الجندية وكانت حصة الفتوة أساسـية لجميع الطلاب ، بالإضافة للأنشطة الميدانية المتعلقة بها ، فكنّا بعد انتهاء اليوم الدراسي نتلقى تدريبات عملية ، كـتدريبات فرق الصاعقة ، ونحضر طابوراً لممارسة فنون الاشتباك ، بل وحتى في الإجازة الصيفية ، كنا نتلقى مزيداً من التدريب تحت إشراف "هيئة الفتوة" ، التي كانت فروعها تغطي كـل المحافـظـات . وكان على الطلبة في جميع أنحاء الجمهورية ، أن يجتازوا فرقة مظلات مصغرة ، كجزء من التدريب الإلزامي للفتوة ، مما ساهم بقوة في غرس روح الانتماء ، والوطنية ، في نفوس الطلبة . وكنا نتدرب أيضاً على العروض العسكرية ، ونؤديها في الاحتفالات والمناسبات بالمدرسة ، وكان الدور المنوط بشباب الفتوة في حالة الحرب - نسأل الله العافية - هو الدفاع عن المناطق محل إقامتنا ، إذا احتاج الأمر لذلك ، لا قدر الله .

  • ·نكسة 1967 :
كان الرئيس جمال عبد الناصر في تلك الفترة ، هو الزعيم الأوحد ، والأقوي ، والمثل الأعلى للشباب . وكانت طوائف الشعب كلها تستمع بإنصات لخطبه ، فلا تسمع وقتها صوتاً واحداً في البيوت ، ولا في المقاهي . وكانت الشوارع تصبح خالية ، إلا من صوت الرئيس جمال عبد الناصر في الراديو ( المذياع ) والكل منتبه لما يقول . وكان الجميع يحبونه حباً جارفاً ، ويرونه رجلاً وطنياً محباً لوطنه ، وشعبه .

وكان سبب النكسة هو دخول جيش مصر الحرب فجأة ، بعد ما تم استنزافه في حرب اليمن . وكنا لا نعرف شيئاً عن تلك الحرب ، بل كنا نستمع للإذاعة ، ونقرأ في الصحف أن أحد اليمنيين ، ويُدعي "عبدالله السلال" ، هو قائد ثورة اليمن ، وأنه يأتي إلي مصر ، وأن من يُعرف هناك بـ "الإمام" ، يذهب إلي السعودية ، ثم نسمع من الإذاعات الخارجية أن أتباع عبدالله السـلال ماهم إلا منـشـقـين ، وكلاماً كثيراً جداً مثل هذا . فكنا لا ندرك لماذا يحارب جيشنا هناك ، ولم يخطر ببالنا أن لذلك علاقة بتأمين الملاحة في باب المندب ، وتأثير ذلك على مصر ، غير أننا سمعنا عن ذهاب جنودنا إلى هناك ، وأن عددهم بدأ بكتيبة صاعقة واحدة ، ثم بدأت أعدادهم المسافرة إلى هناك تتزايد .

ثم سمعنا أن سوريا قد أبلغت مصر فجأة ، أن القوات الإسرائيلية بدأت تحتشد علي حدودها ، فوجَّه عبدالناصر القوات المسلحة المصرية ، لسرعة تعزيز حشودها في سيناء ، دفاعاً عن الشقيقة سوريا ، وقام بإلقاء خطاب ، من داخـل إحـدى قواعدنا الجوية في سـيناء ، معلناً فيه إجلاء قوات الأمم المتحدة - المتواجدين بصفة مراقبين - على خط التماس بينا وبين فلسطين المحتلة للأسف ، وكذا إغلاق مضيق "تيران" أمام الملاحة الدولية . فكنا لا نعرف ما هو مضيق تيران أصلاً ، ولا نفهم أن ذلك يُعد بمثابة إعلان حرب على إسرائيل ، وبدأت الأزمة تـشـتد بعدها والأحداث تتسارع .

وكانت امتحانات الثانوية العامة وقتها قد اقتربت ، فبينما أنا أذاكر دروسي في بيتنا نهاراً يوم 05 يونيو ، إذ سمعنا هتافات الناس في الشـوارع ، وهم يرددون "الله اكبر! الله اكبر!" ، ففتحنا المذياع لنعرف ما الخبر ، فإذا الحرب قد بدأت . ثم توالت علينا البيانات العسكرية ، أننا قد أسقطنا عشرات الطائرات لقوات العدو ، والناس يهتفون - مع كل بيان - بفرحة في الشوارع والمقاهي ، والبيوت : "الله اكبر" . ولكن بدأت لهجة البيانات في اليوم التالي تتغير ، معلنة أن الجـيش المصري يقـف موقـف الدفاع ، وأننا قد بدأنا في "احتلال نسق الدفاع الثاني" . والناس يتساءلون هل تحولنا إلى الدفاع ؟ وهل يوجد نسق دفاع أول ونسق دفاع ثاني ؟ .

وبدأت أنا في ذلك الوقت أشعر بالخطر علي مصر ، وجاءني اتصالان ، أحـدهـما من الرائد / وائل عـطية قائد المدرسـة والآخر من مساعده الرقيب أول / عبد الفتاح ، أن أتوجه الي المدرسة بملابس الفتوة ، فأسرعت إلى هناك ، ووجدت عدداً كبيراً من زملائي ، قد سبقوني بملابس الفتوة أيضاً ، وبدأ الضباط ، وصف الضباط ، يوزعون علينا جميعاً "واجب عمليات" أن مهمتنا هي الدفاع عن محـطـات البنزين ، ومحـطات القـطار في منطـقـتنا "أبو قير" ، و"سيدي جابر" ، وغيرهما .

ثم سلمونا بنادق وذخيرة ( طلقات رصاص) حيّة ، وأمرونا أن نحتفظ بالطلقات في جيوبنا ، ولا نعمّرها ( نلقمها في البندقية ) إلا إذا حدث هجوم ، لا قدّر الله .

وتوجهنا إلي الأماكنالمحددة لنا ، ورابطنا فيها ، وكنا نبيت هناك ، ولا نذهب إلي بيوتنا ، إلا بمقدار ما يطمئن ذوونا علينا ونأكل أي شئ متوفر ، ثم نعود مرة أخري لمهامنا ، وكان ذوونا يتفهمون الموقف ، ويعرفون أننا نؤدي واجبنا تجاه الوطن .

وفي ظل تلك الظروف الصعبة ، فاجأنا الرئيس جمال بخطابه الثاني - خطاب التنحي - فشعرنا عندما سمعناه ، أن كل شئ قد انهار ، وأن النكسة قد حصلت فعلاً ، واستمرينا مع ذلك مرابطين بالشوارع لتأمين المظاهرات ، التي نعرف أنها سـتخـرج تلقائياً لأن الشعب كان متمسكاً بعبد الناصر ، يحبونه ، ويرون أنه هو الرجل القوي الذي سـيخرج بهم إلى النور مرة أخرى ، من الظلام الذي خيّم وقتها ، وليس أحدٌ غيره .

ولكن اهتزت بشدة ثقة المصريين فيمن حوله من قيادات ، فلم نعد نفهم ماذا كانوا يفعلون وهم على رأس تلك المناصب ، ولماذا خرجوا علينا بتلك البيانات الكاذبة في بداية الحرب ، ولماذا تركوا الرئيس يندفع بسرعة نحو الحرب ، ماداموا غير جاهزين لها .

وفي تقديري الشخصي ،أن الاستهانة بالعدو ، والغرور الزائد نتيجة للصورة الزائفة التي أعطاها عبدالحكيم عامر ، وزير الحربية آنذاك ، للرئيس جمال، كانت من الأسباب الرئيسية للنكسة . وكذلك أدى عدم الدراية بواقع اليهود الفعلي ، إلى الاستهانة بهم ، والاندفاع باتجاه حرب لم يكن جيشنا جاهزاً لها . وإذا تملك الغرور أحداً ، فبالتأكيد لن يقوم بتدريب قواته وتجهيزها علي أحسن وجه . واستشعر الناس التخبط الواضح لدى القيادات ، وعدم وجود خطة مدروسة ، أو بدائل ، وأن من كان مسؤولا عن الجيش ، لم يفعل شيئاً من واجباته المفترضة .

وقد ظهرت لي تلك الصورة أكثر وضوحا ، بعد التحاقي بالكلية الحربية ، ودراستي لمبادئ العلوم العسكرية ، من أنه لابد من التحضير الجيد للحرب قبل خوضها ، ودراسة جميع احتمالاتها ، وتخطيط وتجهيز الإجراءات اللازمة لمواجهة كل احتمال منها ، وكـذا دراسة العـدو لنعـرفه ، كما نعرف أنفـسنا تمام المعرفة ، وأنه لابد لمن يريد أن يحارب ، أن يدرس الأرض التي ستقوم عليها المعركة أيضاً ، وأن يضع الخططاً البديلة إذا فشلت الخطة الرئيسية للتغلب علي العدو ، ولا يترك ثغرة يمكن أن يدخل العدو إليه منها ، دون دراستها وتأمينها .

ورغم أن هذا كله موجود منذ القدم في علوم الحرب ، إلا أنه لم يؤخذ في الاعتبار من طرف قادة الجيش وقتها ، ولم يعمل به أحد منهم للأسف . ولكن تغير الحال تماما ، بعد أن تسببت النكسة بحمد الله ، في إفاقة الجميع من غفلتهم ، وظهرت آثار ذلك أثناء تدريباتنا الشاقة ، استعداداً لحرب أكتوبر / العاشر من رمضان .

وأعود لسياق حديثي السابق ، حيث تم تأجيل امتحانات الثانوية العامة في ذلك العام 1967 م ، إلى أجل غير مسمي ، بسبب النكسة . وبالطبع لم يتمكن الطلاب الذين شاركوا في عمليات حماية ، وتأمين المنشآت وقتها ، من المذاكرة بشكل جيد .

  • ·دخولي الكلية الفنية العسكرية :
وحين استؤنفت امتحانات الثانوية العامة ، بعد ذلك ، وظهرت النتائج ، تقدمت للالتحاق بالكلية الفنية العسكرية ، حيث المعتاد أن الحد الأدني لمجموع الدرجات المطلوب للقبول فيها ، يكون أقل من المطلوب للقبول بكليات الهندسة غير العسكرية . وكنت شـخـصياً أتمني الالتحاق بإحدى تلك الكليات ، ولكن شاءت إرادة الله غير ذلك ، وكان شعوري بواجبي تجاه وطني ، دافعاً مساعداً في ذات الاتجاه .

وكانت الكلية الفنية العسكرية وقتها ، تستقبل المتقدمين الجدد بمقرها بالقاهرة ، في معسكر لأداء اختبارات ، في اللغة الانجليزية والرياضيات ، والقدرات الخاصة ، واللياقة البدنية . وأذكر أننا ذهبنا للكلية في موعـد ظهـور النتيجة ، فلم نجـدها قد ظهرت ولكن أخضعـونا للاخـتبارات مرة أخرى ، بدلا من ذلك ثم ظهرت النتيجة تالياً ، بأنني من المقبولين بحمد الله ، وبدأت من ساعتها مرحلة جديدة تماماً من حياتي .

وكان العميد / محمد إبراهيم حسن سليم ، مدير الكلية الفنية العسكرية وقتها - رحمه الله - رجلاً وطنياً خالصاً ، وعَلَماً من أعلام قواتنا المسلحة . وكان مقيماً معنا في الكلية ، ويبذل جهداً غير عادي ، ويؤدي دوراً مهماً للغاية ، في رفع الروح المعنوية للطلبة . وكانت البلد وقتها في حالة حشد نـفـسي ، ومعـنوي كبيرين جداً ، لجميع الطاقات المتاحة ، وكنا كطلبة ، نبذل مجهودا مضاعفاً لمواكبة ذلك .

وكانت مدة الدراسة بالكلية ، ولا تزال ، خمس سنوات ، تشمل أحد عشر شهرا دراسياً لكل سنة ، وكانت إجازة نصف العام أسبوعاً واحداً ، وإجازة نهاية العام أسبوعين اثنين ، ثم نعود للكلية مرة أخري للتيرم ( الفصل الدراسي ) الصيفي ، فلا يوجد ما يسمي "إجازة" في الكلية . وكان التيرم الصيـفي مـزيجا من التدريب العملي الفـني والعسـكري ، بالإضافة لما يسمّي بـ "المشـروع" ، ويشبه مناورة عسكرية كاملة .

وكان يومنا الدراسي ، يبدأ في الساعة 05,45 صباحاً ، بطابور اللياقة البدنية ، ثم الإفطار ، ثم المحاضرات ، وينتهي في الساعة الثالثة عصرا ، ثم الغداء ، ثم راحة لمدة ساعتين ، تتلوها فترة السكاشن (الفصول) ، حيث يشرح لنا المعيدون ما درسناه في الصباح بالتفصيل ، ويحلون معنا التمارين عليه ، أو نذاكر نحن ما درسناه بشكل انفرادي ، ثم ينتهي البرنامج بالنوم ، ثم نبدأ يوماً جديد في صباح اليوم التالي .

وكنا نصل للتخصص في الكلية علي مرحلتين ، بعد السنة الأولى ، حيث تكون الدراسة فيها عامة لجميع الطلبة ، وتشمل المواد الهندسـية الأساسية ، كالـرياضيات ، والهندسة الفـراغية بما يماثل السنة الإعـدادية في كـليات الهندسة العادية ، مضافاً إليها المواد المساعدة ، كاللغتين الإنجليزية ، والعبرية ، والتعليم العسكري الأولي ، وضرب النار ( الرماية ) .

أما أولى مراحل التخصص ، وهي التخصص العام ، في السنة الثانية ، فكنا ندرس خلالها الميكانيكا ، والكهرباء ، والكيمياء .

وأما التخـصص الدقـيق ، فكان يستغرق السنتين الثالثة والرابعة وندرس فيهما ميكانيكا الصواريـخ ، والمركبات ، والمدرعات والطائرات ، والأسـلحة والذخـيـرة ، بالإضافة للتخصصات الأخري من كيمياء ، وكهرباء ، ثم نقوم بعمل مشروع التخرج خلال السنة الخامسة . وكان اختيار كل طالب للسلاح الذي يرغب العمل فيه ، يتم بكتابته لترتيب رغباته عند نهاية السنة الثانية ، ثم يتم تنسيق ذلك عن طريق إدارة الكلية ، للتوفيق بين رغبات الطلبة ، في ضوء مجموع درجات كل منهم في المقررات الدراسية المختلفة ، وبين احتياجات القوات المسلحة من كل تخـصص . وكان مجـموع درجاتي في السـنة الثانية يؤهلني لأن أختار أسلحة يقـبل عليها ويتمناها الكثير من الطلاب ولكني سجلت سلاح المدرعات كرغبة أولى ، وفق ما تمنيت منذ دخولي الكلية .

وكان أول شئ تعلمته في تخصص المدرعات ، هو أن أعرف عدوي جيداُ ، بتشكيله ، وأنواع أسلحته ، وإمكانيات كل سلاح . ولم يكن مطلوباً منا ، مقارنة سلاحنا بسلاح العدو ، وكنا نحن نثق بسلاحنا ، ولا يفكـر أحد منا في مقارنته بسـلاح العـدو وكانت هذه الثقة مهمة جدا لنا .

وكنظرة عامة لسلاح المدرعات ، فإنه ينقسم إلى نوعين من المعدات ، أولاهما الدبابة ، وهي كما نعلم ، مركبة قادرة علي عبور أنواع مختلفة من الأراضي والموانع ، وعليها دروع لحمايتها من طلقات الرصاص ، والشظايا المعادية ، وتحمل مدفعاً كبيراً فوقها ، وذخيرة للمدفع بداخلها ، وقد تحمل رشاشاً للمساعدة . ومهمتها الأساسية هي اقتحام وتدمير خطوط العدو وتشكيلاته ، دون أن يستطيع العدو تدميرها .

وكان للدبابة سابقاً رهـبة عظمى في المعارك ، قـبل أن تنعكس الأمور ، فتصبح الرهبة لجنود المشاة ، المسلحين بصواريخ م/ د ( مضاد للدبابات ) المحمولة ، بسبب حـرب أكتوبر .

أما ثانية معدات سلاح المدرعات فهي المدرعّة ، وهي مركبة عليها دروع أيضاً ، ولكنها مخصصة لحمل جنود المشاة بأسلحتهم داخلها لحمايتهم ، وتوصيلهم إلى مكان عملياتهم في أمان وسـرعة ، بدلا من استهلاك وقتهم ، وتعريضهم للخسائر في حال تحركهم إلى منطقة عملياتهم ، سيراً علي الأقدام .

ومن المدرعات - كما نعلم - ما يمكنه السير في البر فقط ، ومنها ما هو برمائي ، يمكنه التحرك عبر الموانع المائية أيضاً . وتختلف المدرعة البرمائية عن البرية ، في أنها مصممة بشكل يتيح لها الطفو على سطح الماء ، ومزودة بطبّات ( سدادات ) خاصة ، لإغلاق الفتحات التي يمكن أن تتسرب منها المياه إلى داخل المركبة ، أو إلى أي من أجزائها الميكانيكية . وذلك حتى يمكن للمركبة أن تظل تعمل أثناء طفوها . كما أنها تكون مزودة بتوربينات ( مراوح ) خلفية ، وصندوق تروس خاص ، يتيح نقل عزم المحرك من العجل إلى التوربينات والعكس ، بحيث يمكن للمركبة أن تتحرك في الماء بواسطة التوربينات ، ثم تعاود السير على البر مجدداً عند خروجها إليه مرة أخرى .

وكانت الدبابة السوفيتية "تي 62" من أقوي الدبابات لدينا ( وصلت الدبابة تي 62 لمصر أول مرة عام 1972 بعدد 200 دبابة فقط ) ، وكان مداها ( مسافة الرمي ) أكبر من مدي الدبابتين "سنتوريون" الإنجليزية ، و"إم 60" الأمريكية لدى العدو ، وكانت دبابات العدو تمتاز بمرونة حركة أكبر ، وبتوافر مخزون تعبوي واستراتيجي لديهم من الدبابات والذخائر ، أكبر كثيراً مما لدينا مما يتيح لهم تعويض الخسائر والمستهلكات أسرع منا ، وكانت دباباتنا الشرقية أقوى تحملاً ، وأقل أعطالاً من دباباتهم الغربية .

  • ·وفاة الرئيس جمال عبد الناصر :
كـنا قبل تخرجنا ، وقـبل وفاة الرئيس جمال عبد الناصر رحمه الله ، نسمع عن غارات تقوم بها طائرات العدو على الأهداف المدنية لدينا ، مثل حادثة بحر البقر ، وغيرها من الأعمال الإجرامية ، وكان هذا بالطبع يسبب لنا حالة نفسية سيئة وكنا جميعا نتحرق شوقاً للثأر ، والانتقام من عدونا . وعندما توفي جمال عبد الناصر ، رحمه الله ، تم جمع طلبة الكلية في أرض الطابور ، ليخبرونا بالخبر الأليم ، فأصابنا الذهول من هول الفجيعة ، لأن الرئيس جمال عبد الناصر كان رمـزاً كبيراً لا نرى على الساحة شخصاً آخر في قوته ، يمكن أن يحل محله . وحين خرجت الجنازة ، بعد ذلك بيومين ، كانت مهمتنا السير وراء الجثمان كحرس شـرف ، وكانت القوات الخاصة في حالة استنفار تام ، لحماية المنشآت الهامة في البلد ، وذلك لكي تخرج الجنازة بشكل منظم ، ولكنّ الشـوارع امتلأت بجموع الناس منذ الصباح ، ولم يكن أحد ليستطيع السيطرة علي الموقف ، الذي كان فوق تخيلنا ، وفوق حسبان أي واحد من البشر . وتحولت الجنازة إلي مظاهرة شعـبية مهيبة ، أغلقت الشوارع والميادين طوال مدة الجنازة ، وسادت حالة الحزن العميق مصر خصوصاً والأمة العـربية كلها عموماً ، رأيناها نحـن في أعـين المصريين ورآها العالم بأجمعه ، في أعين الشعوب التي كان عبدالناصر ملهما لها ، على طريق التحرر من الاستعمار .
  • ·تولي الرئيس السادات الحكم :
لم يكن الشعب يثق بشكل كافٍ في الرئيس السادات ، وبدأنا ونحن في الكلية ، نسمع عن المظاهرات التي يقوم بها طلبة الجامعات المدنية ، ويطالبون فيها السادات بإعلان الحرب على العدو ، للأخذ بالثأر ، وكان الوضع مختلفاً تماماً لدى طلبة الكليات العسكرية ، فكنا نشعر بالجدية التامة ، وأنه ليس ثمة فائدة حقيقية من تلك المظاهرات .

ومع اسـتمرار وتنوع ، التدريبات التي نؤديها ، كنا نزداد شعوراً بالثقة في أنفسنا ، وأن يوم الثأر بات قريباً ، وأننا سننتصر بإذن الله ، ولن تستمر النكسة طويلاً .



  • ·الانضمام لصفوف القوات المسلحة :
وحين تخرجنا في عام 1972م ، حضر الفريق / محمد أحمد صادق القائد العام للقوات المسلحة وقتها حفل التخرج ، وبدأنا التدريب العملي لفترة قصيرة في إحدى ورش القوات المسلحة بعد التخرج مباشرة . ثم تم توزيعنا علي التشكيلات ، وجاء توزيعي بالكتيبة 603 ضمن اللواء 130 برمائي ، الذي تم تكوينه حديثا وقتها لمهمة العبور البرمائي ، وكان تمركزه بمحافظة الإسكندرية ، في منطقة العامرية . وبدأنا التدريبات ، وكان التدريب ذا شقين ، أحدهما برّي ، عبارة عن ضرب نار في الصحراء ، والآخر بحري في منطقة "أبوقير" عند جزء من الساحل يسمى البحر الميت ، حيث يحوط مياهه حاجز أمواج طبيعي ، فيسهل فيه التدريب الأولي على العبور بالمركبات البرمائية ، وتتشابه طبوغرافيته مع طبوغرافية خليج السويس .

ولم تكن المدرعات البرمائية ، سلاحاً جديداً علينا ، كمدرعة في حد ذاتها ، ولكن كان الجديد في الأمر ، أنها ستسير بنا في البحر أيضاً بالإضافة للبر ، ولم تكن الأمور واضحة لنا وقتها ، وما هي المهمة التي يمكن أن نكلّف بها ، وكنا نتدرب علي السير بالمدرعة في الماء ، مسافة خمسة كيلومترات ، نقوم خلالها باختبار درجة الحرارة ، والتأكد من إحكام الطبّات ، ومراقبة هل يوجد تسـريب مياه أم لا . ثم زادت المسافة تدريجياً مع استمرارنا في التدريب ، حتي وصلت إلى 20 كيلومتراً في التمرين الواحد .

ومع تكرار التدرب ، بدأت مشاكل الاستخدام الفعلي في الظهور ، من تسربات للمياه ، وارتفاع في درجة حرارة المحرك وغيرها . وكانت المشكلة الأكبر هي تلف المحرك ، وتوقفه كلياً عن العمل ، إذا تسربت المياه إلي فلتر الهواء ، فليس حينئذ من حل ، إلا تغيير المحرك بالكامل ، لعدم إمكانية إصلاحه بعدها . وظهرت بناءً على ذلك براعة المقاتل المصري في عمل تعديلات على المعدّة ، لتجنب المشاكل التي ظهرت خلال التدريب ، ومن ذلك أننا قمنا بتثبيت فتحات طرد المياه خارج المدرعة ، لأنها كانت دائما ما تسقط أثناء الحركة ، كما قمنا بعمل فتحات تهوية لحاجز الأمواج . وكان الهدف من ذلك ، أن تتمكن المدرعة من السير لمسافات طويلة دون أعطال .

وكان من المشاكل التي واجهتنا أيضا ، أثناء التدريب الليلي أن المدرعات كانت تخرج في قُول ( طابور ) واحد ، وترجع مرة أخري في نفس التشكيل ، فكانت عند الالتفاف للعودة في الظلام تصطدم ببعـضها البعض ، لأن الإنارة الخارجية عـليها خافـتة وعند نزولها في الماء ليلاً ، لا تكون مرئية بسهـولة . فقمنا بإضافة كشافين خارجيين لكل مدرعة ، أحدهما أحمر ، والثاني أخضر . بالتعاون مع القوات البحرية ، لإمكان تمييز اتجاه حركة المدرعة .

وكانت بعض القطع البحرية ، في بداية تدريبنا ، تخرج معنا للمساعدة عند الحاجة ، ولكن بعد مرور أقل من سنة ، صرنا نخرج في التشكيل ، ونسير مسافات تصل إلى 25 و 30 كيلومتراً بمفردنا ، دون قطع بحرية مساندة .

  • ·آخر مناورة قبل حرب أكتوبر :
وفي عام 1973م ، قبل الحرب بفترة بسيطة ، قمنا بآخر مناورة لنا ، وكانت التعـليمات أن ننتقـل أولاً إلي منطقة سيدي كـرير حيث البحر المفتوح ، وسط الأمواج ، لنتدرب في ظروف مشابهة لأصعب ظروف يمكن أن تواجهنا في المعركة .

وكانت خطة التدريب أننا سنقوم بالسير في الماء مبتعدين عن الشاطئ لمسافة خمسة كيلومترات داخل البحر ، ثم نسير بموازاة الشاطئ إلي أن نصل لمنطقة الحمَّام ، ثم نقتحم الشاطئ ، ونهجم علي منطقة فيها مضيق جبلي ، كمحاكاة لمهمة عبور برمائي حقيقية وكانت المناورة ليلية ، حضرها الفريق / سعـد الدين الشاذلي رئيس الأركان وقـتئذ ، وكان المـوج في هـذا اليوم عالياً جدا ولكننا أنجزنا المهمة علي أكمل وجه ، بحمد الله .

ومن ضمن صعوبات مناورة ، أنه كان من الضروري عبور جميع المدرعات معاً في وقت واحد ، ضمن المدة المحددة ، فإذا تجاوزنا المدة المحددة ، فشل التمرين .

وقد حدثت خسائر طفيفة في المعدات نتيجة للموج العالي ، فغرقت اثنتان من المركبات وكنت أنا في آخر مدرعة خلف القول ، ومعي فريق الصيانة المكون من عدد ثلاثة ميكانيكي ، وعدد واحد كهربائي ، وذلك للتدخل بإصلاح أي عطل قد يحدث لأيٍ من المركبات ، خلال سيرها في الماء . وقد حدثت بعض الأعطال فعلاً خلال التمرين مثل توقف توربينات إحدى العربات عن العمل ، وتوقف محركات بعض العربات أيضا ، فكنت أقوم مع رجالي بإصلاح العطل فوراً ، وسحب ما لا يمكن إصلاحه . وقد قمت خلال ذلك بسحب إحدى المدرعتين اللتين غرقتا بسبب دخول المياه للمحرك ولم أستطيع سحب الثانية في حينه ، وقمنا بسحبها تالياً بعد ذلك .



U2ntitled.jpg




وتم خلال التمرين وصول باقي المدرعات إلي الشاطئ للهجوم علي المضيق واحتلاله . وكنا أثناء التمرين نقوم بإبلاغ كل خطوة ننفذها إلي قائد اللواء ، أولاً بأول ، حتي تـمت المهـمة بنجاح تحت مراقبة القيادة .

وبعد المناورة بثلاثة أيام ، قامت القيادة بعقد اجتماع لتحليل المناورة ، بحضور الفريق الشاذلي ، الذي أشاد بنجاحها ، وقال لنا إنها نجحت تماما ، وإن نسبة خسارة حوالي 4% ، هي نسبة ضئيلة جدا لا تذكر ، ونجاح كبير لنا ، وأننا سنكون أول مسمار يُدَّق في نعش العدو بإذن الله ، وأسجل هنا أن قائد اللواء وقتهاالعقيد محمود شعيب كان يجتمع بنا بصفة دورية ، ويستمع إلي مشاكلنا ، ويسعى في حلها ، وكان مثل ذلك يحدث في صفوف الجيش بأكمله.

كان حجم التدريب الواحد الذي نقوم به ، خلال سنين تدريبنا قبل الحرب ، لا يمكن وصفه ، وكنا نتدرب ليلاً ونهاراً ، وحتي في نهار رمضان كنا نتدرب ، ونحن صائمين ، وكان وقت الإفطار هو وقت الراحة الوحيد بالنسبة لنا ، وبعد الإفطار ، كنا نواصل التدريب ليلاً . وأصبح كل جندي يعرف كل شئ عن مهمته في المعركة ، من كثرة التدريبات التي نقوم بها ، وتغـلبنا خلالها أولاً بأول ، علي جميع المشكلات التي كانت تظهر لنا ، حتي حفظ كل ضابط وجندي ، جميع المشاكل المحتملة ، وحلولها عن ظهر قلب . وعندما قمنا بالعبور فعلياً في الحـرب ، كان العبور بالنسبة لنا ، مجرد نزهة ، مقارنة بالتدريبات القاسية التي كنا نقوم بها قبل الحرب .

  • ·كيف تم تحويل رجال الصاعقة الي مشاة بالكتيبة 603 :
كانت الكتيبة 603 بالأساس كتيبة صاعقة صغيرة ، وحين تم ضمّنا إليها ، وجدت أن معظم مقاتليها من الإسكندرية ، وفيهم أصدقاء وجيران لي من أيام الدراسة . فكان معظمنا يعرفون بعضهم البعض ، وتوطدت العلاقة بيننا بسرعة ، عندما تم ضمنا إليهم . ورأينا كيف يتعاملون مع بعضهم البعض ، وأن لديهم نوع من الاعـتزاز بالنفـس ، والارتباط القـوي معاً في نـفـس الوقت فلا تجد إلا المحبة ، والتعاون الشديد ، بين الضابط والجندي وحتي عند النوم ، ينامون بنفس الأماكن ضباطاً وجنود ، وأثناء الطعام أيضاً ، لا تجد فرقاً بينهم ، بل يأكل الضباط والجنود معا من نفس الطبق . وكانوا عندما نعـود إلى الإسكـندرية في الإجازات ، أراهم ينزلون من بيوتهم في الأمسيات ، ليجلسوا سوياً علي أحد المقاهي القريبة . ولازلنا إلي الآن نتقابل بين الحين والآخر لنجلس سوياً ، ونستعيد الذكريات ، ولا يفارق بعضنا البعض .

ولما كانت طبيعة رجال الصاعقة أنهم يعملون دائما في مجموعات صغيرة - لسهـولة التخفي ، وسـرعة الحـركة - واعتمادهم علي الكمائن ، بينما طبيعة عمل المشاة تستلزم العمل معاً في أعداد كبيرة ، وكانت مهمة الكتيبة واحدة ، ولابد من العـمل الجـماعي لتحقيقها ، فقد قامت القيادة بمجهود كبير جداًلتحويل رجال الصاعقة إلي رجال مشاة ، حتى يمكن الاستفادة من مزايا الصاعقة والمشاة معاً ، وكنا نتدرب ليلاً ونهاراً على دور كتيبتنا ، وهو دور "المفرزة" بمعني أنها كتيبة رائدة لمن خلفها ، قوية وسريعة الحركة ، عالية التسليح ، تسبق القوات الرئيسية في الهجوم علي الهدف ، لتشتيت انتباه ، واسـتنزاف العدو ، وتلقي الصدمة الأولى منه ، توفـيرا لطاقة القوة الرئيسية للهجـوم ، القادمة خلفها . وكانت تدريباتنا - كما أسلفت - هي عبور مانع مائي ، ثم التقدم نحو العدو والهجوم عليه ، واحتلال مضيق جبلي على الشاطيء ، على أن يتم تجميع ذلك ، وتنسيقه مع مهام باقي الكتائب ، لتكوين مشروع حرب اللواء بالكامل .

  • ·مشروع الحرب :
وبعد استكمال مستويات التدريب ، النظري ، ثم العملي الجاف (بدون ذخيرة) ، ثم العملي بالذخيرة ، وإتمام ذلك لكل سـرية ، ثم لكل فـصيلة على حدة ، يتم الإعـداد لمشروع الحرب الذي هو تدريب شامل على المهمة القتالية للكتيبة ككل ، ويتلو ذلك مشروع حرب بمستوى أعلى ، ينفذه اللواء بأكمله ، وذلك لاكتشاف الأخطاء التي قد تظهر ، وتحليلها ، لاستنباط الحلول المتاحة ، للتغلب عليها أثناء تنفيذ المهمة الفعلية ، أو تلافي حدوثها من الأساس .

ولما كنت مسـؤولاً عن سلامة مركـبات الكتيبة وصيانتها فكان من ضمن مهامي في مشروع الحرب ، مراجعة "جداول التحميل" ، وهي قوائم تشمل رقم كل عربة ، واسم سائقها ، واسم كل مقاتل فيها ، والسلاح الذي معه ، واسم قائد المجموعة التي يتبعها ، والأسلحة المقرر تحميلها في كل عربة - كمدافع الهاون وغيرها - بحيث لا تتجاوز حمولة العربة من الأفراد ، والأسلحة والذخائر ، والتعيين ( مستلزمات الإعاشة ) طناً واحداً ، وهو الحمل الأقصى للمدرعة "توباز" سوفيتية الصنع ، التي كانت بحوزتنا وقتها ، خلال سيرها في الماء .

وكان التعيين المسلّم لكل مقاتل ، عبارة عن علبة مقاس 20×20 سنتيمتراً ، تحوي أطعمة محفوظة إنتاج شركة "قها" أو شركة "إدفينا" ، ويُحتسب وزنها ضمن الأوزان الإجمالية في العربة وكانت محتوياتها كالآتي : علبة فول مدمس ، وعلبة أرز مطبوخ وعلبة خضار مطبوخ باللحم ، وعلبة مربى صغيرة ، وباكو (مغلّف) بسكويت ، وعدد اثنين كيس ، بكل منهما تلقيمة ( خلطة ) شاي وسكر ، تكفي لعمل كوب شاي واحد ، وعدد اثنين قرص وقود جاف لتسخين الطعام ، وعمل الشاي ، ومشط أعواد ثقاب ويسمى ذلك "تعيين قتال" ، على أساس أن يكفي المقاتل ليوم واحد . ويتسلم كل مقاتل علبتين منه ، وعلبة ثالثة تحوي نفس الأصناف ، ولكن بعـبوات أصغـر حجـما ، تُسمي "تعيين طوارئ" ، وبذلك يستطيع المقاتل البقاء بدون إمدادات إعاشة لثلاثة أيام .

  • ·إرهاصات الحرب :
جاءتنا الأوامر قبل الحرب بأيام ، أن نتحرك إلي السويس بواسطة القطارات ، وكان موقع تمركز الكتيبة الجديد ، مجهزاً هندسياً قبل أن نصل إلى هناك . وفي يوم 26 سبتمبر1973 م ليلاً وصل بنا القطار إلى السويس ، قريباً من ميناء الأدبية ، فقمنا بإنزال المدرعات بعدد 50 مدرعة ، ثم تحركنا باتجاه القاعدة البحرية هناك ، حيث قمنا بإخفاء المدرعات داخل الحفر المجهزة لها سابقا بجوار القاعدة ، وتغطيتها جيدا بأقمشة التمويه ، في حذر ، وبدون صوت ، حتي لا يشعر بنا أحد .

وفي الصباح توجهنا إلي قائد القاعدة ، الذي سألنا كيف وصلتم إلي هنا دون أن يشعر بكم أحد ؟ وكان هذا في حد ذاته نجاحاً كبيراً لنا في السيطرة علي تحركاتنا ، والوصول والتمركز دون أن يشعر بنا أفراد حراسة القاعدة . ثم تلقينا التعليمات بالقيام باستطلاع المنطقة ، وبدء التدريبات ، وفق خطة مختلفة هذه المرة ، وهي أننا سوف نقوم بالعبور من نقطة تمركزنا على أول خليج السويس ، والتقدم بسرعة للوصول إلي ممر متلا واحتلاله فبدأنا باستطلاع المكان ، والنزول إلي المياه ، للتعرف على طبيعة وطبوغرافية المنطقة .

ولكن في يوم 02أكتوبر ، جاءتنا أوامر جديدة بالتحرك من الأدبية إلي جنوب البحيرات المرة ، ومن هنا بدأنا نشعر أن في الأمر شئ ، وأن تلك التدريبات ليست عادية ، ولكن لم يتأكد لنا أي شئ . وبدأ الجيش يرسل إلينا مهمات جديدة من المخازن ، لم يرسل لنا مثلها من قبل ، مثل أفرولات ( حُلة عسكرية ) مضادة للحريق ، وأسلحة جديدة نعرف أنها من ضمن الاحتياطي الاستراتيجي ، فتأكدنا أن هناك عملية كبيرة على الأبواب ، ولكن لم يكن لدينا أي شئ مؤكد .

وعند وصولنا إلي منطقة تمركزنا الجديدة ، جنوب البحيرات بدأنا في استطلاع الأرض التي سوف نعبر منها ، فوجدناها سبخة ورخوة جداَ ، تغرز فيها المدرعات وتتعطل عن السير ولابد من تقويتها ، فأرسلت إلينا القيادة شكائر ( أكياس قماشية ) من الـرمل ، وطرحـوها أرضاً لتسير عليها الدبابات ، ولم يكن ذلك حلاً كاملاً ، لأن تلك الشكائر لم تتحمل سير المجنزرات عليها ، لفترة تكفي مرور الكتيبة كلها .

وفي يوم 04 أكتوبر ، بدأت أتأكد بأننا سوف نحارب ، بناء على الشواهد الحاصلة أمامي . وفي مساء نفس اليوم ، جاءنا رئيس استطلاع اللواء ، ومعه خرائط ، وأخبرنا أن مهمة الكتيبة 602 هي اقتحام ممر الجدي ، بينما مهمة كتيبتنا 603 هي اقتحام ممر مِتلا ، وممر صغير آخر بجواره ، وأن الكتيبتين ستسيران في البداية علي نفس المحور ، وتواصل الكتيبة 602 تقدمها علي طول الطريق عبر القناة إلى الجدي ، بينما تتجه كتيبتنا إلي اليمين جنوباً للبحيرات ثم عبر البحيرات إلى مِتلا ، وأن علينا العبور قبل عبور قواتنا الرئيسية ، للوصول إلى الممرات واحتلالها قبل الساعة السادسة مساء ، وذلك لمنع وصول مدرعات العدو المتمركز في تمادة وغيرها إلي الممرات واختراقها ، لمهاجمة الجيش الثالث من جانبه الأيسر . وحيث أن مدرعات العدو وفقا لمواقعها الحالية ، يمكنها استكمال جاهزيتها للتحرك ، والوصول إلى الممرات خلال أربع ساعات من بدء طائراتنا في الهجوم على أهدافها في سيناء ، فيلزمنا الوصول إلى هناك قبلهم ، لعمل التجهيزات الهندسية ، وترتيب الكمائن اللازمة ، منعاً لهم من اختراق الممرات ، والتقدم للقيام بهجوم مضاد على الجيش الثالث من جانبه الأيسر ، أثناء تقدمه نحو الشرق . وأخبرنا أنه سيتم إسقاط جوي لقوات صاعقة مصرية عند الممرات - قبل وصولنا إلى هناك - لنفس الغرض ، وأننا سنلحق بهم لدعمهم واستكمال العمل ، لكن الرجل لم يخبرنا عن الموعد المقرر للتنفيذ ، وكنا نحن جميعا علي أتم استعداد وتشوق للتحرك وقتما يصدر الأمر لتنفيذ المهمة .

وفي مساء اليوم التالي 05 أكتوبر ، قال لي قائد الكتيبة إننا سوف نقوم بتنفيذ عمليات غداً ، وأمرني أن أقوم بتجهيز المركبات ، فسألته عن موعد هذه العمليات ، فقال لي : "لا أعلم" فقمت مع رجالي بالمرور والفحص والاطمئنان علي عناصر الحالة الفنية للمركبات بالكامل من وقود ، ومياه ، وزيت .. إلخ .

وفي يوم الحسم ، يوم النصر العظيم ، يوم 06 أكتوبر ، قام قائد اللواء بجمعنا في الساعة العاشرة صباحاً ، وأخبرنا أن موعد العبور هو سعت ( الساعة )1405 ، أي الثانية وخمسة دقائق ظهرا . فقام قادة السرايا بجمع القوات ، وأعطونا التعليمات أن نأخذ المهمات الضرورية فقط ، وأن أي مهمات غير ضرورية نتركها عند التحرك ، ستأتي الشئون المعنوية لجمعها وإخلاء الموقع بالكامل ، وذلك لتخفيف أوزان المدرعات ما أمكن أثناء التحرك في الماء .

وبدأنا بإخراج المدرعات من الحفر في الساعة الثانية عشرة ظهرا ، حتى يمكننا الوصول للشاطئ ، والنزول إلى المياه في الموعد المحدد . وأثناء عبورنا للبحيرات المرة رأينا الطيران المصري يحلق فوقنا متجها إلى الشرق . وعند اقترابنا من الوصول إلى الضفة الشرقية ، رأينا طائراتنا عائدة من الضربة الجوية ، وكأنها ترفرف بأجنحتها من فرحتها بالنصر ، فتعالت صيحاتنا بالتكبير : "الله أكبر .. الله أكبر" . وعندما رأينا سحب الدخان ترتفع من بعض أهداف العدو القريبة منا نتيجة لقصفها ، زاد ذلك من عزيمتنا وإصرارنا ، ورفع روحنا المعنوية لأقصى درجة .

وبينما عبرت مدرعاتنا - التي كانت في المقدمة - إلي الضفة الشرقية ، لم يتمكن بعض من كانوا في الخلف ، من النزول إلى الماء أصلاً - لعدم تحمل شكائر الرمل مرور المزيد من الجنازير عليها - وبدأت المدرعات تغرز في الأرض الرخوة ، دون أن نستطيع انتشالها ، فصدر الأمر بانتقال الباقين لنقطة العبور المرادفة جهة اليمين ، على شاطئ البحيرات .

وكانت التعليمات أنه إذا حدث أي عطل في أي مدرعة - أثناء العبور - يستلزم إصلاحه وقتاً أكثر من خمس دقائق ، فعليّ ورجالي أن نقوم بنسفها فورا ، لئلا تقع لاحقا في يد العدو ، وكان معي في مدرعتي المتفجرات اللازمة لذلك . ولكن نتيجة لتأخر عبور الكتيبة بكامل قوتها ، بسبب تعدد حالات الغـرز ، سواء على الشاطئ أثناء النزول ، أو في جزر رملية مغمورة تحت سطح المياه أثناء العبور ، وكذلك الأعطال الناتجة عن تسرب المياه للأجزاء الميكانيكية ، فقد تقدم قائد الكتيبة بما عبر معه من مدرعاتنا جهة الشرق ، دون انتظار لعبور الباقين ، على أمل أن يسبق العدو إلى الممر حسب الخطة ، بينما كنت أنا ورجالي منهمكين في إصلاح المدرعات التي تعطلت ، وكان بعض الأعطال بسيطاً لم يأخذ وقتاً ، وبعضها استلزم وقتاً أطول ، فلما بدأت المسافة بين مقدمة الكتيبة ومؤخرتها في الازدياد ، اضطر قائد الكتيبة إلى مواصلة السير ببطء ، ليستجمع قواته المتأخرة خلفه ، فوصلت مدرعات العدو للممرات قبلنا ، وتجاوزتها باتجاه الجانب الأيسر للجيش الثالث كما أسلفت ، فقابلونا مطلقين نيرانهم تجاهنا على بعد 25 كيلومترا شرق القناة . فقام قائد الكتيبة بإنزال ما معه من رجال ، لاتخاذ وتجهبز مواقعهم على الأرض ، وبدء الاشتباك وأمرني في اللاسلكي ، بسرعة جمع باقي الكتيبة واللحاق به فورا ، فعبرت بمدرعتي ساحباً ورائي إحدى المدرعات ، ومُخرجاً إياها للضفة الشرقية ، تاركاً خمس أو ست مدرعات أخرى عاجزة عن التحرك ، دون أن نجد الوقت لإصلاحها أو نسفها ، ثم لحقت بنا أطقمها في اليوم التالي ، بعد عبورهم بمركبات أخري بديلة .

ولما كانت مدرعة التـوباز لا تصلـح نداً للدبابة بأي حـال حيث تدريعها ، وقدرات مدفعها ، أقل بكـثير ، مما لدى الدبـابة كما أن رجالنا المجهزين بصواريخ م / د ( مضاد للدبابات ) من الميلوتيكا والفهد ، لم يجدوا الفرصة الكافية لتجهيز مواقعهم على الأرض بشكل كامل ، يمكنهم من التعامل مع العدو بكامل الكفاءة كما أن العدو كان مستميتاً في محاولة المرور ، فقد وصلت خسائر الكتيبة في المعركة غير المتكافئة مع لواء مدرع كامل للعدو إلى 50 % ، واستوعبت كتيبتنا الصدمة الأولى ، وفق المهمة المطلوبة منها ، ونجحنا في حماية الجيش الثالث ، ومنع الصهاينة من التقدم نحوه ، إلى ما بعد الساعة الثانية عشرة ليلاً . وتمكن الجيش من تركيز مجهوده لإتمام العبور ، وإنشاء رؤوس الكباري ، والاقتحام والتقدم جهة الشرق ، وقمنا بعد ذلك بالانضمام إليهم ، مستمرين في مهمتنا بحماية جانبهم الأيسر من أي استهداف .

وفي يوم 07 أكتوبر ، بدأ هجوم طائرات العدو علينا ، وكان لابد من رجوعي إلي القناة مرة أخري ، لانتشال المدرعات السبعة الغارزة في الرمال ، فوصلت مع رجالي هناك ، وبدأت في سحبها من المياه لإصلاحها وإعادة تشغيلها ، بينما بدأ طيران العدو ودباباته في ذلك اليوم ، بالهجوم العنيف مجدداً على كتيبتنا خارج نطاق عمل دفاعاتنا الجوية غرب القناة ، ولكننا استطعنا في ذلك اليوم تدمير دباباتين للعدو ، واستطعنا في اليوم التالي 08 أكتوبر إسقاط ثلاث طائرات لهم ، بصواريخ م / ط ( مضادة للطائرات ) طراز سام 07 المحمولة على الكتف . وانضم إلينا في ذلك اليوم ضابطان ممن تبقوا من الكتيبة 602 .

وقد لاحظنا أثناء الحرب ، عدم وجود قوات راجلة للعدو علي الإطلاق في أرض المعركة ، بل كانوا باستمرار متحصنين داخل الدشم أو داخل الدبابات ، مصداقاً لقوله تعالى * لَا يُقَاتِلُونَكم جَمِيعَاً إِلَّا فِي قُرَىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ * صدق الله العظيم .

ورغم الخسائر الكبيرة التي تعرضت لها كتيبتنا ، وكذلك الكتيبة 602 بشكل أكبر ، إلا أننا كنّا نضحك ، ونشعر بالفرح والانتصار ، لإسقاطنا ثلاثة طائرات للعدو ، وتدمير دباباتين لهم وتكبيدنا للعدو كثيراً من القتلى في صفوفهم ، فضلاً عن نجاح قواتنا في العبور ، واكتساح خط بارليف - أقوى خط تحصينات في التاريخ - وكانت روحنا المعنوية في السماء ، رغم الألم الذي يعتصر قلوبنا تجاه استشهاد أصدقاء وزملاء أعزاء لنا ، لكن تغلبنا علي كل ذلك ، لأن تلك هي الحرب ، وحتى نستطيع مواصلة دورنا في حماية جيشنا الثالث من أي هجمات جانبية .

وفي يوم 08 أكتوبر جاءتنا الأوامر من قائد الجيش الثالث باقتحام نقطة كبريت الحصينة في خط بارليف - وكانت لم تسقط بعد - فتوجه قائد الكتيبة إلي قيادة الجيش الثالث لمدارسة المهمة وأرسلت إلينا القيادة دعماً ، عبارة عن سرية دبابات تي 62 ثقيلة من اللواء 25 ، وسرية صواريخ م / د "نمر" ، وهي عبارة عن قواذف وصواريخ فهد ، محملة على عربات جيب ، بالإضافة لدعم القصف المدفعي من كتيبة مدفعية على الضفة الغربية للقناة مقابل كبريت . وبدأ قائد الكتيبة بتوزيع المهام والأسلحة على السرايا ، ووضع خطة التحرك ، وإرسال دوريات استطلاع في الطريق الذي سنسلكه ، لمعرفة تواجد العدو على الطريق من عدمه ، ثم تحركنا فجر يوم 09 أكتوبر باتجاه كبريت ، وتعرضنا لغارة جوية من العدو في الطريق ، ولكن اتخذنا الإجراءات الوقائية اللازمة ، فلم نصب بأي خسائر بحمد الله .

وحين وصلنا إلي كبريت ، رأينا العلم الاسرائيلي يرفرف فوق تبة عالية من أرضنا السليبة ، وبدأت مدفعيتنا في الضفة الغربية للقناة - بالتنسيق معنا – في قصف الموقع ، بينما نقوم نحن بحصاره بالدبابات ، في تشكيل "مروحة" . وبدأنا نحن الضرب المباشر بالصواريخ ومدافع الهاون ، وبدأت قواتنا تتقدم من جهتي الجنوب والشرق ، تاركـين جهة الشـمال مفتـوحة حسب خطة العقيد / إبراهيم عبد التواب رحمة الله عليه ، أن نترك لهم ذلك الجانب ليهربوا منه ، ونسـتولي نحن علي النقـطة لأننا إذا حاصرنا الموقع بالكامل ، ستكون الخسـائر عـندنا كبيرة ولكن إذا تركنا لهم منفذاً للهروب ، سنستولي علي الموقع بأقل مجهود وأقل خسائر . وعندما اقتربنا إلى مسافة قليلة منهم بدأوا فعلاً بالانسحاب عبر الجهة المفتوحة ، ورأيناهم يهربون في رعب من تشكيل الكتيبة ، الذي كان رهيبا مفزعا لمن يراه ، بما فيه من دبابات وصواريخ ، بالإضافة للأسلحة الفردية ، بينما كان لدى العدو في الموقع ، سرية دبابات ، وسرية مشاه .

وتم اقتحام الموقع ، وسقطت كل نقاطه الحصينة ، مع أنهم لو كانوا صمدوا ، ما كنا نستطيع دخول الموقع عليهم ، ولكن قذف الله في قلوبهم الرعب ، وأسرعوا هاربين بحمد الله .

وعند دخولنا الموقع ، وجدنا فيه نقطة تابعة للأمم المتحدة بها اثنين من الضباط وصف ضابط ، قمنا بالقبض عليهم ، وتم ترحيلهم لاحقاً ، عن طريق اثنين من مندوبي المخابرات الحربية ووجدنا طعام الصهاينة في الحصن لا يزال ساخنا ، وشراب النسكافيه مسكوباً على المكاتب ، من وقع المفاجأة ، ووجدناهم قد تركوا كل شئ ، حتي سياراتهم الجيب ، وملابسهم ، ومتعلقاتهم الشخصية . واستغرقت العملية من بدء التحرك حتى الاقتحام حوالي 06 ساعات ، إلى أن تم رفع العلم المصري صاحب الأرض بدلاً من العلم الصهيوني

scan0012.jpg




scan0011.jpg





  • ·وصف الموقع :
كانت مساحة الموقع حوالي 02×01 كيلومتر ، محاطة من جميع الجهات بالألغام ، ويحيط بحقل الألغام ساتر ترابي من جميع الجهات أيضا ، يتـراوح ارتفاعـه بين 04 و 09 أمتـار وداخل حقل الألغام ، أسـوار من الأسـلاك الشـائكة لمنع الدخول وبداخل الساتر الترابي دشم ( غرف محصنة ) مدفونة ، بعضها يخرج من مزاغلها (فتحة صغيرة في الجدار للرماية من خلالها) فوهات الأسلحة ، وبعضها تستخدم كنقاط مراقبة ، وبعضها تستخدم كملاجئ إعاشة للأفراد . وبعد كل هذه النطاقات ، ندخل إلي الحصن الرئيسي ، وهو عبارة عن جبل به غرف مدفونة مبنية بالدبش ( كتل من الحجر الجيري ) الأبيض ، وتتصل مع بعضها بممرات جوانبها مبنية بنفس الطريقة ، وجميعها مغطاة بمكعبات من شـبك الحـديد الملحـوم مقاس 02×02×02 متراً مملوءة بالدبش أيضا ، ومرتبة على طبقات ، ممدود بينها قضبان سـكـك حديدية ، بحيث لا تتأثر النقطة بأي ضربات أو قنابل . وفي المنتصف يوجد فناء مكشوف ، به حفر للدبابات . ويشتمل الحصن الرئيسي على مركز قيادة ، ومستشفي ميداني ، وأجهزة إشارة . وقد قمنا بالاستفادة من أسلحتهم ومعداتهم ، وكل شئ ممكن الاستفادة منه داخل الموقع ، وكانت أول مرة نري هذا الحصن القوي عن قرب ، وبدأنا بتوزيع الأسلحة والذخائر ورجعت قوات الجيش الثالث التي كانت تدعمنا أثناء الاقتحام إلي مواقعها مرة أخري ، وبقيت معنا سرية دبابات واحدة من اللواء 25 مدرع ، وتم توزيع القوات في الاتجاهين الشرقي والشمال الشرقي جهة العدو . وكانت منطقة كبريت منطقة منعزلة فلابد من عمل خطة دفاعية خاصة إلي حد ما ، تجاه هجمات العدو المرتدة المتوقعة ، وبالفعل بدأ قائد الكتيبة بعمل نقط ملاحظة خارجية في المنطقة لاكتشاف العدو ، عند محاولة اقترابه منا فنتعامل معه ، وبدأ بإرسال دوريات استطلاع يومية ، في جميع الاتجاهات لنفس الغرض .

وكان معنا سرية مهندسين عسكريين وسرية مشاة ، فبدأ قائد الكتيبة في فعل شئ جيد جدا في اليوم التالي 10 أكتوبر ، إذ كلفهم بعمل حقل ألغام جديد ، خارج نطاق حقل الألغام الموجود سابقاً حول الموقع - ويسمي حقل ألغام درجة أولي - بمعني أنه غير مُسوَّر ، ولكن توضع له علامة في الارض ، لا تلاحظها قوات العدو ، ولا يتوقعونها ، وذلك لمفاجأتهم إذا حاولوا الاقتراب . وبدأ الرجال بالفعل في وضع الألغام علي بعد 40 متراً خارج سور الألغام الموجود سابقاً بالموقع .

وكان الجيش المصري في ذلك الوقت ، مستمراً في التقدم وتعزيز مواقعه ، ونجح في السيطرة علي جميع المناطق المحررة من يوم 06 إلى يوم 15 أكتوبر سيطرة تامة . ولم يحدث معنا نحن خلال هذه المدة ، إلا اشتباكات بسيطة ، أثناء قيام الرجال بدوريات الاستطلاع اليومية .

وفي أحد الأيام ، رجعت إحدى دورياتنا ، بقيادة الضابط / عبد الرازق شامخ ، لتبلغ بوجود دباباتين للعدو ، قد سقطتا في حقل ألغام ، وتعطلتا عن السير ، علي بعد 15 كيلومتراً من الموقع ، فكلفني قائد الكتيبة أن أذهب برجالي لإصلاحهما والعودة بهما ، فخرجت مع الرجال ، وبدأنا تطهير الألغام ، حتي نتمكن من سحبهما إلي الموقع ، وكانتا من نوع السنتوريون .

وأثناء ذلك رأتنا قوات من العدو كانوا قادمين لأخذ الدبابتين أيضاً فبدأوا بالقصف في اتجاهنا بمدافع الهاون ، وكان هناك ساتر فقمنا بالاختباء خلفه ، وبدانا نشتبك معهم ، ثم اضطررنا لتدمير الدباباتين بالأر بي جي ، لكي لا يحصلوا عليهما .

  • ·تطوير الهجوم :
بدأ تطوير الهجوم يوم 14 أكتوبر ، ولكن بدأت الأمور تتغير بعد أن كان الجيش متقدماً ، ومسيطراً علي جميع المناطق المحررة تقريباً ، بدأ الأمر يأخذ اتجاهاً آخر ، وبعد أن كانت التعليمات قد صدرت إلينا بالتقدم في اتجاه الشرق ، وبدأنا فعلا بالتجهيز للتحرك ، جاءتنا تعليمات جديدة ، بأن نلزم موقعنا ووصلتنا إمدادات من قيادة اللواء ، وجاءت هيئة قيادة اللواء إلي النقطة ، وتم عمل مركز قيادة اللواء عندنا ، وانضم إلينا من تبقي من الكتيبة 602 ، بعد ما تعرضوا لخسائر تقدر بنحو 50 % في الصدمة الأولى أيضا مثلنا ، ثم حضروا إلى كبريت أيضاً وتمركزوا خلفنا ( غرب القناة ) ، في منطقة تسمي مطار كبريت إلى الغرب من موقعنا ، وبيننا وبينهم لسان بحري صغير يمكن عبوره بالبرمائيات ، يسمي لسان كبريت . وكانت مهمتهم الدفاع عن مطار كبريت ، وبدأنا مع وصول الإمدادات بتوسيع دائرة احتلالنا للموقع خارج النقطة الحصينة ، وبدأت الأمور تأخذ وضعاً أفضل ، ولم نكن نعرف ما يحدث بالغرب ، إلا أننا سمعنا عن الثغرة .

يوم 17 أكتوبر ، رأينا اللواء 25 يتقدم أمامنا باتجاه الشمال ، وعرفت من زميلي النقيب / محسن قائد سرية الدبابات لدينا ، أنهم صدر لهم الأمر بتطوير الهجوم ضد تجمعات العدو في اتجاه الشمال ، وأنه منطلق معهم بسريته ، وبالفعل خرج بسريته ولحق بهم . وكان اللواء 25 من أقوي ألوية الجيش لامتلاكه أحدث دبابات تي 62 ، ومدافعه أقوي مما تمتلكه قوات العدو ولكن الإمدادات الأمريكية عبر الجسر الجوي ، كانت قد غيرت الحال ، واجتمع لتدمير اللواء 25 ، تسع ألوية إسرائيلية .

وبدأنا نري الاشتباك من بعيد ، ونري الانفجارات ، ثم رأيناهم بعد الظهر عائدين باتجاهنا ، وخلفهم دبابات العدو تطاردهم بالنيران ، وطلبوا منا في اللاسلكي تأمينهم ، وبدأنا بإخراج المدفعية ، والاشتباك مع العدو ، ونجحنا بتأمين دخول حوالي 27 دبابة ، والعديد من برمائيات اللواء إلي الموقع ، ووصل معهم قادة كتائب اللواء ، واللواء / أحمد حلمي قائد اللواء سيرا على الأقدام ، والذي كان رجلاً محترماً جدا ، لكن حالته المعنوية كانت سيئة ، ورجع النقيب / محسن أيضا ، بسريته كاملة .

وقد قمنا بعد ذلك - في نفس اليوم - بتأمين عودة مدرعاتنا البرمائية إلي الغرب . وفي يوم 19 أكتوبر ، خرج ما تبقى من دبابات اللواء 25 من النقطة في اتجاه الجيش الثالث ، وبقيت سرية النقيب / محسن فقط عندنا .

أما في يوم 18/19 أكتوبر ، فتم الهجوم المتوقع علينا ، وكان قادة الكتائب مازالوا موجودين معنا داخل النقطة ، بدأ العدو قصفاً جديداً بالمدرعات في الصباح ، ثم قامت مدفعيتهم بتوجيه ضربة تمهيدية ، ثم بدأوا بالهجوم المباشر علينا ، فاشتبكنا معهم ، وهم علي بعد 03 كيلو ، وكانت معركة كبيرة ، استخدمنا بها جميع الاسلحة ، وتفاجأ العدو بأننا مازلنا بكامل قوتنا ، وعزيمتنا ، بعد القصف ، ولم يستطيعوا دخول الموقع لحصانته ، وحدثت خسائر من جرحي وقتلى عند الطرفيين .

  • ·وقف إطلاق النار الأول :
في أول أيام وقف إطلاق النار 22 أكتوبر ، والذي لم يلتزم به العدو ، و في الصباح قبل سريان القرار ، رأينا سيارات للعدو تمر من أمام الموقع ، فبدأنا نطلق النار عليهم ، وقاموا بالرد علينا ، وفرت سيارة مدرعة ، وانقلبت سيارة جيب من قوات العدو ، وأرسلنا مفرزة تجاههم ، وتبين لنا أنهم كانوا خمسة ، قتل منهم اثنان أثناء الاشتباك ، وأسرنا الثلاثة الباقين ، وعرفنا منهم أنهم من اللواء 09 مدرع ، وكان من الواضح أنهم ضباط مدفعية واستطلاع ، يقومون بالاستطلاع علي النقطة تمهيدا للهجوم علينا وتم أخذ بياناتهم وأرقامهم العسكرية وترحيلهم . وبدأ طيران العدو ودباباته في نفس اليوم - بعد العصر تقريبا - بتوجيه القصف والاشتباك معنا ، وقمنا بالتعامل معهم حتى الساعة السادسة موعد وقف إطلاق النار ، و حدثت خسائر في الجانبين .

ومع أول ضوء في صباح اليوم التالي ، رأينا طائرات تحلق فوقنا ظنناها مصرية ، لأن وقف إطلاق النار قد بدأ منذ الليلة الفائتة ، ولكن بينما كنت أشرب مشروبا ساخنا - مما وجدناه في النقطة - إذ سمعت صوت انفجار ، فخرجت مسرعا لأري ماذا يحدث ، فإذا الطائرات إسرائيلية ، عددها 04 طائرات ، وتقوم بقصفنا بالتتابع في تشكيل ساقية دوارة ، مستخدمين صواريخ خارقة للتحصينات ، وقـنابل زنـة 500 ، و1000 ، و2000 رطـل فأحدثوا تدميراً شاملاً للنقطة ، دون أن نستطيع الرد لأن وسائط الدفاع الجوي الخفيفة لدينا ، قد انطمرت في الرمال ، وتحت الأنقاض من شدة القصف ، الذي كان بكميات وتركيز غير طبيعيين ، ولم يتوقف إلا قبل آخر ضوء بحوالي 5 دقائق ، وكنت وقتها داخل النقطة ، ومعنا الضابط / مقلد رئيس العمليات فخرجت لاستكشاف الوضع ، ووجدت دبابة ، لم تصب في القصف ، ومكان القائد فيها شاغر ، فقمت بالدخول مع من كانوا فيها احـتماء من القصف ، ورأيت بجانبي دباباتيـن جهة اليمين في إحداهما النقيب محسـن قائد السـرية ، ومثلهـما علي اليسـار وشاهد النقيب محسن أحد الأبطال يجري من شدة النيران ، فناداه ليدخـل إلي الدبابة معهم ، عـلى أسـاس أنه يحميه من الموت ولكن ماهي إلا لحظات قليلة ، حتى ضُربت الدبابة بحزمة صواريخ دمرتها بمن فيها ، وقال لي الجنود الذين معي : "سوف يأتي الدور علينا" ، فقلت لهم إن كل واحد سينال نصيبه المحتوم وإن العمر واحد مكتوب لا يتغير ، وبحلول الظلام توقف الطيران عن القصف ، وتبين لنا ساعتها استشهاد رئيس العمليات الضابط / مقلد ومعه مجموعة من الضباط والجنود ، فذهبنا إلي قائد الكتيبة / إبراهيم عبد التواب لنري ماذا سنفعل ، وفوجئنا ونحن عنده ، باستئناف قصفنا من مدفعية العدو مرة أخرى ، فقال عبدالتواب ، إن العدو ينوي الهجوم برياً أيضا ، فلنستعد ، ولا يطلق أحدٌ منكم طلقة واحدة إلا بأمر مني ، ولم يكن لدينا أي اتصال بالقيادة لطلب الدعم ، حيث كل أجهزة الاتصال قد دمرت في القصف ، فأرسل قائد الكتيبة إلي الضابط / خولي قائد سرية الهاون ، ليأتي اليه ، وقال له : "عندما أعطي لك الأمر قم بإطلاق طلقة مضيئة لتكون إشارة لجميع القوات لبدء الاشتباك وبدأ الأبطال في إخراج الصواريخ م / د التي انطمرت بالرمال من جراء القصف لتجهيزها ، ونجحوا في تجهـيز 4 مجمـوعات ثم سمعنا صوت مدرعات العدو قادمة من اتجاه الشمال الشرقي وبدأوا يضربون علينا ، ثم يتوقفون عن الضرب ، ثم يقومون بالضرب مرة أخري ثم يتوقفون ، ولم يطلق أحد منا طلقة واحدة حتي اطمأنوا ، وبدأوا يقتربون من الموقع ، حتي وصلوا إلي حقل الألغام الذي أضافه رجالنا بدون سور خارج الحقل الأصلي فتم إطلاق طلقة الهاون المضيئة ، وقام جميع الرجال بإطلاق النيران في اتجاه دبابات العدو بوقت واحد ، وأصاب أول صاروخ ، إحدى دبابات العدو ، فقسمها نصفين كقطعة الزبد بتوفيق من الله ، وما أن رأي الصهاينة ذلك ، حتى استداروا راجعين القهقرى في فزع شديد وبدأوا ، بالتخبط ببعضهم البعض ولم يقدروا علي الصمود ومواجهتنا من شدة الخوف ، واستمرت هذه المعركة نصف ساعة فقط .

وكان العدو قد ظن ، بعد توجيه الضربات طوال اليوم السابق علينا ، أن الموقع قد أصبح خالياً ولكن لم يكن في حسبانهم أنهم سينسحبون منه بضربة موجعة .

  • ·حصار كبريت :
في اليوم التالي ، بدأ العدو مرة أخرى ، بتوجيه ضرباته بنفس الطريقة ، من أول ضوء إلي آخر ضوء بالطيران ، وليلاً بالدبابات ، واشتبكنا معهم وهم علي بعد 02 كيلومتر ونصف ولمدة خمس ساعات ، دون أن يستطيعوا التقدم تجاهنا .

وأعادوا الكرة في اليوم الثالث ، وعند محاولتهم الاقتراب ليلاً بدأوا يستخدمون معنا الميكروفون ، ويقولوا لنا "اطلع يا مصري ولن نؤذيك" !! "إذا استسلمت سوف ترجع إلي بلدك ، لكن لو بقيت هنا ستموت" ، وكلام من ذلك القبيل ، آملين أن يؤثروا علينا للاستلام وترك الموقع ، وبدأوا من ذلك اليوم الحصار علينا وكانت القيادة بسبب انقطاع الإرسال ، قد ظنت أننا انتهينا ، وأن الموقع قد وقع في يد العدو مرة أخري .

وبدأنا نفكر كيف سنتواصل مع الجيش الثالث ، وقد قارب الماء والطعام علي النفاد ، ويوجد بالموقع جرحي حالتهم خطيرة وعددهم كبير ، ولا يوجد إمكانيات لعلاجهم , والطعام قليل جدا فكنا نوزع عبوة البسكويت الواحده علي 04 أفراد ، وعبوة الفول علي 04 أفراد أيضا , وفكرنا بأن تخرج دورية استطلاع لاستكشاف الطريق إلى الجيش الثالث ، وهل يوجد قوات للعدو في هذا الطريق أم لا ، وخرجت أول دورية مكونة من اثنين من الضباط ، هما الضابط / عصام هلال ، والضابط / حمدي نجيب ووصلا إلي منتصف الطريق دون مشاكل ، فعرفا أن الطريق آمن ورجعا مرة أخري إلي الموقع ، وكل الدوريات التي خرجت رجعت الي الموقع مره أخري ، ماعدا مجموعة من جرحانا كنا نقوم بإخلائهم ، وحملناهم في قارب لعبور لسان كبريت ، ولكن تم ضرب القارب من العدو أثناء عبورهم وغرق ، واستشهد عددٌ منهم وأصيب آخرون ، رحم الله جميع شهدائنا .

وفي اليوم التالي ، خرجت نفس الدورية مرة أخري إلي أن وصلا ليلا إلي حدود الفرقة السابعة في مواجهة اللواء الثامن مشاة ضمن الجيش الثالث ، وانتظرا حتى طلع النهار ، وبدءا في تعريف نفسيهما لجنود الجيش الثالث المعينين في الحراسة ، لئلا يرموهما بالرصاص حال ظنوهما من قوات العدو . وعند حدوث التعارف اصطحبهما أفراد الحراسة إلى قائد اللواء ، ثم إلي قائد الجيش الثالث اللواء / أحمد بدوي رحمة الله عليه ، والذي فوجئ بأننا علي قيد الحياة ، وأن نقطة كبريت صامدة لم تُحتل من الصهاينة وفرح فرحا شديدا ، وقال لهما : "أطلبا ما يلزمكم وقولا لي ما المطلوب منا لنفعله لكم؟" ، فقالا له نحتاج إلي أدوية ، ومياه وجهاز لاسلكي ، فأرسل من ساعته مجموعة استطلاع تستكشف طريق عودتهما إلي كبريت ، ثم أرسل معهما طبيباً ، وأدوية وجهاز اللاسلكي ، وفرحنا حين رأيناهم عندنا في الموقع ، أن حققنا الاتصال مع القيادة ، وبدأ الطبيب بتقييم موقف الجرحي وقال إنه لابد من إخلائهم إلى الفرقة السابعة ، وحمل من لا يمكنه السير علي قدميه إلى هناك لتلقي العلاج ، فكان كل أربعة من الرجال يحملون واحداً من المصابين على نقالة ، وبدأوا بالحالات الأكثر حرجاً ، في رحلة طولها 18 كيلومتراً ، ويأتون في عودتهم بجراكن (حاويات محمولة للمياه ، من البلاستيك) المياه ثم بدأت الحمولة تتغير رويداً رويداً ، إلى عبوات طعام ، وأسلحة وكل ما نحتاجه بالموقع . وقام واحد أو اثنان من الزملاء بعد ذلك بتصنيع جهاز تقطير بدائي بالإمكانيات الذاتية .

واستطعنا أن نقـف مرة ثانية ، ونسترجع قـوتنا ، وعـزيمتنا وتبني القائد أحمد بدوي حماية موقع كبريت ، لقيمته الثمينة كمركز قـوة خلال مفاوضات فـصل القوات عند الكيلو 101 ، لمن يكون تحت سيطرته ، ولأنه لو سقط ، سينفتح طريق إمداد إضافي لقوات العدو المحاصرة في الثغرة ، بعيدا عن تمركزات الجيش المصري ، مما يتيح للصهاينة مجال حركة أوسع ، بعكس طريق الدفرسوار ، الذي يمرون عند استعماله ، بين قوات الجيشين الثاني والثالث ، فيتعرضون للضرب ذهاباً وإياباً .

وقدّر الله بعد فترة ، أن يتم اكتشاف دوريات الإخلاء السارية بين موقعنا ، وبين الجيش الثالث يوميا ، والتي تحولت إلى دوريات إمداد ، وبدأ العـدو في استهدافها ، فانقـطع طريق الإمدادات البري ، وبدأت مرحلة جديدة من الصمود ، وتحمل قلة المؤن ، إلى أن تم اكتشاف طريق بحري بديل ، بواسطة مجموعة استطلاع أرسلها القائد اللواء / أحمد بدوي ، رحمة الله عليه . وصار يخرج في الدوريات كل من الضابط / صبري الكاسح ، والضابط / عصام هلال ، بالتبادل مع الضابط سيد حرب ، والضابط / حمدي نجيب .

وعرفنا لاحقاً أن الجانب الاسرائيلي عرض علي القيادة المصرية في مفاوضات الكيلو 101 ، تأمين انسحاب القوات المصرية في كبريت ، بحيث تأتي الأمم المتحدة لاستلامهم بدون سلاح من الموقع ، فرفض الجانب المصري فكرة انسحابنا بدون سلاح فأعاد الجانب الاسرائيلي العرض على أساس أن نصطحب أسلحتنا ، فلم يرد عليهم الجانب المصري ، واتصل اللواء بدوي على المقدم عبد التواب قائد الكتيبة ، وقال له :"إذا لم تكونوا قادرين على المزيد من الصمود ، فيمكن ان نقوم بتأمين انساحبكم وسأله هل لديكم مياه ؟ فقال له عبدالتواب : " يافندم لدينا إمدادات تكفي لمدة شهرين آخرين ، ولن نترك النقطة ، والرجال قادرون علي الصمود " فحياه بدوي ، وقال له كلمات تشجيعية ليشد من أزره ، وتلك هي القيادة في نظري ، أن يطمئن القائد لإمكانات رجاله ، ويتشاور معهم في الأمر ، قبل أن يتخذ القرار الصحيح في النهاية .

وأذكر أن الصهاينة أرادوا خلال الهدنة ، سحب آلياتهم التي كانت أمام الموقع وتم تدميرها أثناء الاشتباكات ، وكانوا حوالي 27 قطعة ، من دبابات ، ومدرعات ، وجاءتنا الأوامر أنه سيأتي إليكم مندوبون من الأمم المتحدة ، مع أفراد العدو إلي الموقع لتنفيذ ذلك ، وجاءت عربة الأمم المتحدة ، ومعها حوالي 20 فردا منهم ، وكنت أنا من قام بالتعامل معهم ، لإجادتي الحديث بالإنجليزية بحكم دراستي . وبدأوا يتكلمون علي أنهم سيقومون بسحب كل القطع من خارج الموقع وداخله ، فقلت لهم إن التعليمات التي عندنا ، أنكم ستسحبون القطع التي خارج الموقع فقط ، ولم يقبلوا بهذا ، ولكن قالوا سنبدأ بسحب القطع الموجودة في الخارج ، وانصرفوا بعد أنجزوها ، ثم وردت إلينا التعليمات بأن ندعهم يأخذون معداتهم التي في داخل الموقع أيضاً ، ولما حضروا في اليوم التالي ، خرجت معهم إلي أن قاموا بسحب كل ما لهم ، وانسحبوا تماما من الموقع .

  • ·استشهاد قائد الكتيبة إبراهيم عبد التواب :
استشهد القائد المقدم / إبراهيم عبد التواب يوم 14 يناير في آخر اشتباك لنا في الحرب ، وكان القائد داخل النقطة ورأي مركبتين للعدو ، إحداهما جيب ، والأخرى مدرعة M 113 تمران من أمام الموقع ، وكانت التعليمات أن نشتبك مع أي عناصر من العدو تظهر في مرمى نيران أسلحتنا ، ولما كانت المدرعة من الطراز المخصص كعربات قيادة لدى العدو ، فقد قام عبد التواب برميها ، فأصابها إصابة مباشرة دمرتها ، ويبدو أنها كانت تحمل رتبة كبيرة لديهم ، فما هي إلا لحظات حتى ظهرت طائرات الهليكوبتر ودبابات العدو ، وهي تهاجم الموقع بشدة ، وبدأنا الاشتباك معهم بالمدفعية والهاون ، وخرج القائد من الملجأ ، ومعه ملازم أول مدفعية ، وكان يوجد مدفع وحيد 120 ملليمتراً يقوم بتوجيه نيران الهاون ، وجاءت دانة خلفهما ، فنادى عليه النقيب / شوقي الجوهري قائد السرية قائلاً : "يافندم دول بيصححوا الضرب عليك ، ادخل جوا" فقال له : "لا مش داخل" فجاءت الضربة التالية داخل الحفرة التي كانا فيها ، واستشهد القائد ومعه ضابط المدفعية سوياً رحمهما الله ، وخيم الحزن علي الموقع ، وأبلغنا القيادة بما حدث فتم تصعيد الخبر ، حتي بلغ القيادة العليا ، الرئيس أنور السادات ، فأرسل إلينا الرئيس رحمه الله ، رسالة برقية فيها : "من القائد الأعلي للقوات المسلحة إلي سعد الدسوقي قائد موقع كبريت" ، وحيا فيها روح الشهيد إبراهيم عبد التواب ، وشهداء كبريت عموماً ، ثم حيّا الأبطال الصامدين في الموقع ، فكانت برقية رائعة لمعنوياتنا جميعا . ولم تطلق طلقة واحدة من أي من الجانبين بعد ذلك الاشتباك ، ولكن كان لابد أن نبقي بالموقع حتي نقوم بتسليمه لقوات مصرية ، فبقينا فيه حوالي عشرة أيام بعد استشهاد القائد / إبراهيم عبد التواب ، حتى تم فتح الطريق ، وجاءت إلينا قافلة كاملة بها جميع أنواع الإمدادات ، وكان علي رأسها ، قائد الفرقة السابعة سابقا والذي رقي خلال الحصار الي قائد الجيش الثالث أحمد بدوي ، وقام بمصافحتنا جميعا ضباطاً وجنودا ، ثم ذهب إلي حيث قمنا بتجميع الشهداء بالموقع ووقف عندهم لفترة ، وظل معنا طوال اليوم وجاءت مع القافلة بعثة من التليفزيون ، فيهم الإعلامي مفيد فوزي ، لتصوير فيلم ، لا يزال موجودا إلى الآن في أرشيف التلفزيون المصري

وبعد أن قمنا بتسليم الموقع إلي الجيش الثالث ، نقلونا إلي مقر قـيادة الجيش الثالث وقـتها ، في منطـقة تسـمي "حبيب الله" وأدخلونا ما يسمى بـ "معسكر تسمين" ، حيث وضعوا لنا الطعام والشراب ، وقدموا لنا الرعاية الطبية مدة أسبوع ، لاستعادة صحتنا وأوزاننا الطبيعية ، بعد أشهر المعارك والحصار الطويلة ثم قمنا بأخذ متعلقاتنا ، وذهبنا إلي محطة السكة الحديد ، وركبنا القطار إلي الإسكندرية ، حيث وجدنا بانتظارنا هنالك ًاستقبالاً شعبيا حافلاً .



( شاهد فيديو الاحتفال بإستقبال أبطال كبريت حصريا علي قناة المجموعة 73مؤرخين





  • ·كلمة للمجموعة 73 مؤرخين :
وأود بهذه المناسبة أن أتوجه بالشكر للمجموعة 73 مؤرخين علي المجهود الذي يبذلونه لتأريخ بطولات ومعارك حرب أكتوبر وإتاحة الفرصة لتوثيق عمليات نقطة كبريت أثناء حرب رمضان / أكتوبر 1973م، وأدعو جميع الأخوة والزملاء للتعاون مع المجموعة لإبراز البطولات ، والحقائق التي لم تسجل حتي الآن ، لحرب أكتوبر .

* * *

تسجيل : أ / حسن الحلو .

: أ / محمد رشاد .

: أ / مروان الديب .

بمقر المجموعة بحدائق القبة .

* تفريغ : آ / رشا محمود .

* مراجعة لغوية : مهندس / عبدالناصر المرابط .

إشراف : أ / أحمد زايد .

ملحق صور

*******

Untitled-Scanned-01.jpg




Untitled-Scanned-02.jpg




Untitled-Scanned-04.jpg




Untitled-Scanned-05.jpg




Untitled-Scanned-05.jpg




Untitled-Scanned-06.jpg




Untitled-Scanned-07.jpg




Untitled-Scanned-08.jpg




Untitled-Scanned-08.jpg




Untitled-Scanned-09.jpg




Untitled-Scanned-09.jpg




Untitled-Scanned-10.jpg




Untitled-Scanned-12.jpg
Untitled-Scanned-13.jpg




Untitled-Scanned-14.jpg
Untitled.jpg




IMG-20161111-WA0003.jpg




_.jpg





المصدر المجموعة 73 مؤرخين