اللواء جمال مظلوم أحد مؤسسي سلاح الحرب الالكترونية

admin

ادارة المـنـتـدى
طاقم الإدارة
إنضم
17 أغسطس 2024
المشاركات
134
مستوى التفاعل
12
النقاط
18
العمر
34
الإقامة
EGYPT

مزاجك اليوم



مذكرات البطل

اللواء / محمد جمال الدين مظلوم

سلاح الحرب الإلكترونية

Gamal%20Mazloum.jpg


ولدت في 23/7/1939 م بالقاهرة ، في أسرة متوسطة الحال ، وكان والدي رحمه الله صيدلياً ، وتشمل عائلتي العديد من العسكريين ، وكانوا جميعاً أكبر منى سنا بفارق بسيط . وكنت أحترمهم ، وأقـدرهـم ، وأعتبرهم مثلاً أعلى لي ، لما لمسته فيهم من حـب الوطن والإخلاص في خدمته فتشربت منهم الوطنية . ورأيت فيهم الانضباط ، والرجولة ، والأخلاق الرفيعة ، فملأ نفسي الشغفُ بالحياة العسكرية . وكنتأشاهدالاستعراضات العسكرية لجيشنا في التلفاز ، فـتعجـبني مِشية الضباط والجـنود وهم يتحركون معاً في التشكيلات بالخطوة العسكرية ، كأنهم رجل واحد ، وأرى ذلك عنواناً للرجولة والانضباط والالتزام ، فازداد تطلعي لأن أكون واحداً من أفراد المؤسسة العسكرية . وحين أنهيت دراستى الثانوية - بمجموع لا بأس به - يكفي لدخول إحدى الكليات المرموقة فى ذلك الوقت ، فضلت بلا تردد أن أتقدم للكلية الحربية .
  • ·بدء علاقتي مع الحرب :
أذكـر أن أول حـرب عاصرتها ووعـيتها ، رغـم حـداثة سني وقـتها ، كانت هي الحـرب العـالمية الثانية ، فعشنا أيامها نُهـرَع إلى الملاجىء كل حين ، عند سماع صافرات الإنذار من الغارات ، وكنت أشعـر مع الناس بالارتياع والقلق الذَّيْن تُحـدِثهـما الحـروب فى نفوس المدنيين البسطاء ، من تأثير الاضطرار للنزول إلى الملاجىء خلال ساعات الليل ، بينما أصوات الانفجارات ، وأزيز الطائرات يشقان السماء فوقنا .

ومع أنني كنت لا أزال طفلاً صغـيراً ناشئاً ، حين عايشت تلك الظـروف العـصيبة ، إلا أنها كانت مصدر إلهام وقـوة نفـسية هائلة لشخصيتي فيما بعد ، لأن حياتنا اليومية المشتملة وقتها باستمرار ، على مشاق اضطرارية نتيجة الحرب ، علمتنا أن نتعايش مع الصعاب ، شئنا أم أبينا ، وأن نجاهد لنتغلب عليها .

وكانت الحرب أيضا سبباً لأن أدرك - منذ نعومة أظفاري - أهمية وجود جيش قوي للوطن ، يحرسه ويذود عن حياضه .
  • ·حرب فلسطين 1948 م :
كان عمري تسعة أعوام حين قامت حرب 1948 م ، ولكني لا أتذكر من أحداثها إلا القليل جداً ، لأنها كانت بعيدة عنّا مكانياً . فلا تتجاوز ذكرياتي عنها بعض البرامج الإذاعية ، والصور الفـوتوغرافية المنشورة وقتها في الصحف والمجلات ، لجحافل العدوانوهم يجرون أذيال خيبتهم منسحبين في نهاية الحرب .

وكانت تلك الأحداث ، كافية لتُبقي شعورنا يقظاً ومتأججاً ، بوجود قضايا مصيرية مشتركة مع أمتنا العـربية - قد تلزمنا بالمشاركة فى حـروب خارج حدود الوطن . خصوصاً بعد المؤامرات الدولية لزرع إسرائيل داخل أمتنا ، كدولة لقيطة غاصبة ، وعنصر دخيل محتل ، صار حقيقة واقعة - بعد اعتراف أقطاب المجتمع الدولي بها - قاصدين أن تبقى كمصدر توتر مستمر في قلب الأمة العربية والإسلامية ، لاستنزاف قواها ، وإضعافها تجاه أطماعهم في الاستحواذ على خيراتها .
  • ·ثورة 23 يوليو 1952 م :
لم أشعر بفارق كبير في حياتنا عند قيام ثورة 23 يوليو 1952 م ، لأنني لم أكن من أيٍ من الطبقتين ، الإقطاعية والأرستقراطية ، ولا مخالطاً لأي منهما . ولكني شعرت حين قامت الثورة ، بحماس الناس ، وتأييدهم الجارف لها ، من شغفهم بالالتفاف حـول الراديو ( المذياع ) - في المقاهي والمنتديات - لمتابعة أخبارها . وكان لتلك الأخبار الجميلة ، أكبر الأثر فى إحداث تغييرات جوهرية ملموسة على شخصيات الناس ، نحو الأفضل . وانتعشت الرغبة لدى الجميع في خدمة الوطن . وأصبحت كل أسرة مصرية تنظر لكـل ضابط وجندي في الجيش ، على أنه واحدٌ منها ، وأخٌ لأبنائها ، له كل إعزاز وتقدير .

وكان والدى رحمه الله ، في تلك الأيام الخوالي ، يقضى موسم الإجازة الصيفية في مدينة رأس البر ، حين يبدأ المستشفى الحكومي هناك في العـمل بكامل طاقته ، لخـدمة المصطافـين . فكنا نقضى إجازتنا الصيفية مع والدي هناك كل سنة .
  • ·ســنوات الدراســة :
كان لدراستي - في المرحلة الثانوية خصوصا - دوراً كبيراً أيضاً ، ومؤثراً على شخصيتي . وكنت أشعر أيامها ، أن المدرسين ، يعتبرون الطلبة أبناءً لهم . وأذكـر عندما أصبحت طالباً في الفرقة الأولى بالكلية الحربية ، أن علاقة الصداقة بيني وبين معلّمي "أستاذ / نحاّس" مدرّس الكيمياء ، استمرت وطيدة ، رغم البعد المكاني ، والفارق فى العمر والمقام ، حتى بعد أن تخرجت من الكلية ضابطاً . و لا أظن أن ذلك الجيل من المعلمين ، يمكن تعويضه الآن للأسف .

وقد بلغ من إخلاصهم في أداء رسالتهم ، أنهم كانو يمرون علينا في بيوتنا ، بعد صلاة المغرب ، ليوزعوا علينا أوراقاً قد لخصوا فيها الدروس بأيديهم ، ويراجعـوها معـنا دون أى مقابل . وكان الواحد منهم إذا شرح لنا درساً صعباً في إحدى حصص المدرسة ، يحدد لنا موعداً فى السابعة مساء اليوم التالى مثلاً بالمدرسة . فإذا وصلنا في الموعد وجدناه قد وصل قبلنا ، ليشرح لنا الدرس مرة أخرى مجاناً . فكان الواحد منا يشعر أن أستاذه هو أخوه أو أبوه ، وكانوا هم السبب الرئيسي فى حبنا للعلم . ومهما حكيت لك عزيزي القارئ ، فلا أستطيع الوفاء بفضلهم عليّ ، رحمهم الله جميعاً .

أذكـر أيضاً أن مادة "التربية العـسكـرية" - وكانت وقتها بمسمّى "الفتوّة" - كانت اختيارية ، مثل مادة "الكَـشّافة" ، وكان لدينا أوقات فراغ تسمح بالانضمام إليها . فكانت من العناصر الرئيسة في العـملية التعـليمية ، لما تُضفيه على الملتحقين بها من أخـلاقيات المروءة ، والالتـزام . وكـنّا نشعر أن ضباطنا أيضاً يعـتبروننا أبناءً لهم ، حتى لو أن طالباً واجه مشكلة في المدرسة ، لسارعوا جميعا إلى التعاون في حـلّها ، بمبادرة ذاتية منهم .

وكانوا ينظمون لنا المعـسكرات الترفيهية في حي "أبى قير" بالإسكندرية كل صيف ، ويوفرون لنا الحافلات ، لنتنزه بين معالم المدينة فى الأمسيات ، ونرجع في نهاية اليوم سعداء . ولطالما تدّخل ضابط الفتوة ، لحل مشاكل بعض زملائنا مع المدرسين ، قبل أن تصل الأمور لإدارة المدرسة . مما حَبَّب إلينا حياة العسكرية ، وزادنا تعلقا بالوطن ، وجعلنا نشعر أننا بين أهلنا ، وأزكى في نفوسنا الوازع ، لمراعاة الأدب عند التعامل مع أساتذتنا ، سواءً كانوا مدنيين أو عسكريين .

وأذكر من أولئك الضباط الأعزاء : سيادة النقيب / عـفيفى رحمه الله ، وكان أحيانا ما يأتي إلى المدرسة بالزي المدني ، وكنا نعتبره أباً ثانياً لنا ، وكان يحضر معنا طابور الصباح يومياً ، ويعرفنا واحداً واحداً بأسمائنا ، ويسألنا عن أخبارنا ، فكان الإقبال على الالتحاق بالفتوّة شديداً بين الطلاب ، وكان الجميع ينظرون إلى طلبة الفتوة ، على أنهم أفضل من غيرهم . وانعكس ذلك إيجابياً علينا ، من تنامي صفات الرجولة ، والوطنية لدينا ، فضلاً عن ارتفاع مستوى اللياقة البدنية ، ونضوج الشخصية . ولاحظ ذوونا ذلك علينا بفخر واعتزاز .

* * * * *
  • ·الكلية الحربية :
التحقت بالكلية الحربية عام 1956 م ، وكان عمرى وقتها سـبعة عـشر عاماً فقط . وكـنت أسمع قبل التحاقي أن أولاد الباشوات ( جمع باشا ) ، وأصحاب الأطيان ( الإقطاعيين - حائزي الأراضي الزراعية الشاسعة ) هم فـقط من يدخلونها . ولم أكن أنا من أيّ منهما ، ولكن كانت صحـتى جيدة بحمد الله ، ووظيفة والدي محترمة . وربما ساعد وجود أقارب لى في الجيش على قبول أوراقى بحمد الله ، فـتـشرفت بالانضمام لصفوف القوات المسلحة ، وسأظل أتشرف بذلك ما حييت ، بإذن الله .

كانت الدراسة في الكلية صعبة من وجهة نظري ، لأن الطالب يبذل فيها مجهوداً بدنياً قاسياً ، بينما وقت المذاكرة محدود . كما أن حياة الطالب في الكلية محددة بنمط معيـن ، لم تسعفني سني الصغيرة وقتها ، على التأقلم معه بسهولة . ولكنى حصلت مع ذلك على درجات التفوق فى الفرقتين الأولى ، والثانية . مما أكسبني رتبة أعلى من أقراني في الكلية في الفرقة الثالثة ، وأهلني لإحراز المركز السادس على دفعتي في الفرقة النهائية .

ومع ذلك فلم تَخلُ سنين دراستي في الكلية من تجارب مؤلمة . فقد كان لواحد من زملائي الأحدث مني ، أقارب ذووا مناصب مهمة في الدولة ، وكانت رتبتى أعلى منه ، فتوقع هو أن أُميَّزه عن باقي زملائه لذلك السبب ، ولكنني كنت معروفاً عند الجميع بالجدية ، وتنفيـذ التعـليمات دون محاباة لأحد . فلم يعجبه ذلك ، وأظـن أنه شكاني لأقاربه ، فظهرت نتيجتي في الفرقة الثانية بالرسوب ، لذلك السبب .

وكانت محنةً قاسيةً ، ولكن زملائي كانوا جميعاً يعرفون أنني قد ظُلِمت ، فتعاونوا لمساعدتي فى الفرقة النهائية . فلم أتأثر بذلك التأخير . كما أن عمري وقتها كان أقل من 19 سنة ،. وشاء الله أن يتم تخريج طلبة الفرقة النهائية في ذلك العام مبكرين ، للمشاركة في حرب 1956 م ، فتم تقديم الدفعات الثلاثة التالية لهم ، لِسَدّ الفراغ ، وكان نتيجة ذلك أن دفعتنا تجاوزت الفرقتين الأولى والثانية كلتيهما ، في ستة أشهر فقط .

وكان سلاح الإشارة وقتها سلاحاً جديداً وصعباً ، فكان مكتب تنسيق الكلّية يختار المحبين للعلم ، والمتفوقين من الطلبة - في الفرقة النهائية - لقسم الإشارة ، فشاء الله أن أكون ممن تم اختيارهم .

وأذكر كذلك في ذات السياق ، أن الدراسة كانت - فى ذلك الوقت - خالية من أي تعـريف للطالب بخصائص عدوه ، وإنما كان التركـيز على فهم واستيعاب العـلوم العـسـكـرية البحتة ، كمهارات التعامل مع أنواع الأسلحة والمتفجرات ، وهندسة الميدان ( حسن استخدام طبيعة الأرض ) ، وفنون القتال والمناورة ، وأساليب القيادة والسيطرة .. إلخ ، أكثر من تركيزها على تعريفنا بعدونا الرئيسي ، وهو كيان الاحتلال الصهيوني ، ولا شك .

وظل هذا الأمر يشغل تفكيري ، حتى يسَّر الله لي أن ألتحق بمعهد الدراسات العربية العليا ، التابع لجامعة الدول العربية ، بعـد التخرج . فحصلت مـنه على دبلوم الدراسات العليا في الشأن الفلسطيني ، ثم حصلت على شهادة الماجستير فى شئون فلسطيـن السياسية ، ثم الماجستير الثانية ، ثم الدكتوراه فى الاقتصاد الإسرائيلى . فكنت - بعد ذلك - مـن القلائل الذين تحدثوا في مصر عبر وسائل الإعلام ، عن اسرائيل واقـتصادها . ونفعني الله بتلك الدراسة فى عملي بالحـرب الإلكـترونية ، حيث تساعدنا المعلومات المتوفرة لدينا مسبقاً عن العـدو ، في تحليل المعلومات الغزيرة التي تتوفر لدينا من التصنت ، وسرعة استخلاص النتائج . وقد وظفت هوايتى فى القراءة والدراسة تالياً ، لنفس الغرض .
  • ·حرب 1956 م :
حين حصل العدوان الثلاثي تم قصف كليّتنا ، من الطيران المعادي ، أول أيام الحرب ، وقضينا بعد ذلك ليلتين في الكلية ، قبل أن يتم ترحيلنا إلى ثكنات المعادي ، فتعرضنا للقصف هناك أيضاً . فتوجهنا إلى الجيزة ، لننتقل منها بالقطار إلى أسيوط ، ثم سافرنا بالطائرة من مطار أسيوط إلى مطار الخرطوم في السودان .

وتخرجت ضمن الدفعة رقم 38 عام 1958 م ، وحضر وزير الحربية حفل التخرج . وكانت إرهاصات الوحـدة مع الشقيقة سـوريا قد بدأت في الظهور - قبل تخرجنا بعدة أشهر - فزارنا قائد الجيش السورى أثناء مشاركته في مباحثات الوحدة ، وعملنا عرضاً عسكرياً أمامه في الكلية .

توجهت بعد التخرج ، إلى معهد الإشارة بحي "روكسي" في مصر الجديدة . حيث كان النظام وقتها ، أن يحصل الضابط فور تخرجه ، على دورة تخصصية في السلاح الذى تم توزيعه عليه ، تسمى "الدورة الأساسية" . فأتممتها بنجاح فى عام 1959 م . ثم تغيرت الأمور بعد ذلك ، فأصبح الطلبة يقضون في الكلية أربعة أعوام بدلا من عامين ، ويتلقون الدورة الأساسية ، كفرقة نهائية قبل التخرج .
  • ·سلاح الإشارة :
رغم أن سلاح الإشارة هو المسؤول عـن الاتصال بين كامل عناصر وفئات القوات المسلحة ، وهو المسؤول بالتالي عن القيادة والسيطرة - أي أنه عصب المعركة - إلا أنه لا يأخذ حقه من الشهرة ، كباقي الأسلحة في العادة . ويكفي لتتخيل أهمية سلاح الإشارة عزيزي القارئ ، أن تعرف أن دور سلاح الحرب الإلكترونية الرئيسي في المعركة ، أن يحاول إعاقة عـمل سلاح الإشارة للعـدو ، أو تعـطيله عـن العمل بالكامل ، إن أمكـن . ونستخدم في ذلك أجهزة إليكترونية معـقـدة ، ومتعـددة الاستخدامات . مما يحوجنا للتنسيق بعـمقٍ وقوة ، مع زملائنا أبطال سلاح الإشارة ، بحيث أن عملنا ، لا يؤثر سلباً - ولا بأدنى درجة - على استقرار وتدفق منظومة اتصالات قواتنا أثناء المعارك . وقد كان لسلاح الإشارة دوراً كبيرا - أثناء حرب رمضان / أكتوبر 1973 م المجيدة - في ذلك ، رغم صعوبة الظروف ، وضعف الإمكانيانات ، واستمر الاتصال بين أفرع قواتنا المسلحة ، قوياً ومستقرا ، بما مكنّ الأفرع جميعها ، من تحقيق مهامها بحمد الله تعالى .

جاء توزيعي بعد التخرج ، على كتيبة الإشارة بالفرقة الرابعة المدرعة ، المتركزة بمنطقة "الهايكستب" في محافظة القاهرة ، وكان قائدها وقتها اللواء / على جمال ، من كبار قادة القوات المسلحة . وفى العام التالي مباشرة - 1960 م - تحولت مصر إلى شراء الأسلحة من الاتحاد السوفيتى ، عوضاً عن السوق الغربى ، تلافياً للصعوبات والعراقيل التي وضعها في طريقها الغرب ، فانهمكنا - نتيجة لذلك - في تغيير أسلوب عمل القوات المسلحة بالكامل من الأسلوب الغربى إلى الشرقى .

وكان قادتُنا متميزين بحمد الله ، فجعلوا التدريب على التغيير بين الأسلوبين ، يومياً ، وقسموا اليوم إلى نصفين ، ينتهى أولهما 2:30 / 3:00 عصراً ، وينتهي الآخر 6:00 مساءً . ثم مددّوا النصف الأول إلى الساعة 6:00 مساء ، والثاني إلى 11:00 مساء . فكـنا - فعلياً - نبيت فى الكتيبة لصباح اليوم التالى ، وتحولنا إلى شبه مقيمين فيها ، مما رفع درجة استيعابنا لعملنا ، بالأسلوبين كليهما ، إلى أقصى درجة ، بسرعة .

وبذلنا جهودا مضنية في التدريب على المعـدات الجـديدة الواردة تباعاً من الاتحاد السوفييتي ، بأساليب ومبادىء عمل جديدة علينا ، فاستوعبناها كاملة ، بأسرع ما تطيقه قدرة البشر .

وكان من الفروق بين الأسلوبين ، أن إتمام الاتصال اللاسلكي بين المستوى الأعلى والأدنى منه - في الأسلوب الشرقي - يلزم أن يتم بشكل نمطي ، على ترددين مختلفين ، أحدهـما أساسيٌ والآخر احتياطي ، بحيث لو انقطع الاتصال على الأساسي لأي سبب ، حَلّ البديلُ لحظياً محلّه . كما تدربنا كثيرا جداً على اختبار عمل الأجهزة ، والتأكد من ثبات وتدفق الاتصالات - ذهابا وإياباً - قبل الخروج لأية مناورة ( مشروع تدريبي ) .

وكان النظام الشرقي كذلك يتضمن قواعد صارمة ، كالتحكم في مدة الاتصال ، بحيث تتم العملية خلال زمن قياسى حده الأقصى ساعة ونصف من لحظة فتح الاتصال ، ثم يتم الغلق مرة أخرى . وكذلك تقسيم الاتصال لمستويات مختلفة ، من الفرقة إلى اللواء ، ومن اللواء للكتيبة ، وهكذا . في حين لم يكن النظام الغربى بهذا التعقيد ، وإنما يعتمد على شبكة مستقلة لكل من القيادة ، والعمليات ، والاستطلاع ، والشؤون الإدارية ، وليس أكثر من ذلك ، فكان للنظام الشرقي عبئاً إدارياً أكبر علينا . وكان سلاح الإشارة فى ذلك الوقت ، من الأفرع القوية في القوات المسلحة المصرية بلا شك .

باعتبار عمل ضابط الإشارة عموماً في الكتيبة ، فإنه ينقسم لفرعين ، أحدهما "لاسلكى" ، والآخر "خطوط" ( هاتفي ) . فيتولى ضابط اللاسلكى توليف ( ضبط موجات ) شبكة اللاسلكى ، ومكانه غالباً في مركبات متنقلة خاصة بذلك . أما ضابط الخطوط ، فوظيفته مشابهة من حيث تحقيق الاتصال بين الوحدات ، ولكنها بظروف وتفاصيل عمل مختلفة . ويشبه ذلك الفرق بين عمل ضباط المدفعية حسب اختلاف أنواعها ، فعملهم في مجمله واحد ، ولكن التفاصيل مختلفة .

وتوجد في سلاح الإشارة وسائل اتصال أخرى ، مثل الاتصال بالمندوبين ، كما توجد أيضاً أقسام مساعدة للوظيفة الأساسية ، مثل الشحن ، والتبريد ، وغيرها . وبسبب عملي كضابط لاسلكى ، قدّر الله أن أحضر جميع مشروعات وتدريبات الفرقة الرابعة مع قائد الفرقة في نفس المدرعة - وأنا مازلت برتبة ملازم - مما أكسبني قدراً كبيراً من الثقة والاطمئنان ، وقدراً وفيراً من خـبرات قائد الفرقة في نفس الوقت ، وعزز مكانتي كذلك بين الضباط والجنود ، بفضل الله .

استمريت بالعمل فى الفرقة الرابعة خمسة أعوام تقريباً حتى 1964 م ، وأصبحت في آخر عامين منها ، رئيساً لإشارة اللواء الثانى المدرع ، المخصص كاحتياطى للفرقة ، والمتمركز في المنطقة الشمالية الشرقية من الجمهورية ، غرب قناة السويس . أما التشكيلات الرئيسية للفرقة ، فكان تمركزها في القاهرة ، بما في ذلك اللواءين الأول والسادس الميكانيكيين ، واللواء الحادى عشر الثقيل ، بقيادة اللواء / المهدى ، بدبابات جى إس الثقيلة جدا

وحين انتقلت إلى اللواء الثاني بالفرقة ، كان كل من قائد ورئيس أركان اللواء قد انتقلا منه للتو ، وجاءنا اللواء "الجمسى" قائداً ، واللواء "سعد مأمون" رئيساً للأركان . وأذكر أنه حدث توتر فى ذلك العام 1960 م على الجبهة السورية ، فتم دفع قواتنا إلى سيناء لرد الصهاينة عن نيتهم في العدوان على سوريا الشقيقة ، وبدأت أسمع عن العقيد "الجَمَسي" ، بعد أن ذاع صيته في الفرقة أنه شديد الانضباط ، ووحدته دائماً متميزة ، وأداؤها جيد فى المناورات ، وتفوز باستمرار فى المسابقات ، وينجح ضباطها فى أى اختبارات يدخلونها . وكنت أنا وقتها برتبة ملازم أول ، ومكاني دائماً في مقدمة تشكيل الفرقة ، فكنت أتمنى أن أرى بنفسى ذلك القائد ذائع الصيت ، فرأيته يوم تحركنا إلى سيناء ، ، حيث كان التخطيط أن يعبر اللواء الثانى كوبرى الفردان عند الساعة 08:00 صباحا أثناء وجودنا هناك ، فراقبت لواء الجمسى وهو يتحرك ، بحكم أننى فى المقدمة . ثم رأيت سيارة عسكرية تتجاوز القوات العابرة ، وتعبر لتقف على الضفة الشرقية ، ثم نزل منها ضابط نحيف البنيان ، طويل القامة برتبة عقيد ، فعدّل من هيئته ووقف يتابع بنفسه تحرّك اللواء بالكامل على الكـوبرى . وإن دلّ ذلك على شيء ، فإنما يدل - من وجهة نظري - على أن جيشنا قبل 1967 م ، كان به قادة عظام ، وأن النكسة لم تكن بسبب تدني في مستوى حرفية الجيش ، ولكن لأسباب أخرى ، لأن نفس هؤلاء القادة أمثال الجمسي وسعد مأمون ، هم الذين خططوا لحرب 1973 م ، وانتصروا فيها بفضل الله . ثم وصل أحدهم بعد ذلك لأن يكون نائباً لرئيس وزراء مصر ، ووصل الثانى لأن يكون وزيراً في الحكومة المصرية ، وذلك لأن الأساس كان مبنياً بشكلٍ رائع ، منذ بدء عملهم فى وحداتهم الأساسية . وقد صممت أنا متأسيا بهم أن أكون من العناصر المساهمة في رفع مستوى اللواء الثانى ، وألا أكون سبباً فى انخفاض الأداء ، لا قدر الله .

وحين أكملت خمسة أعوام من العمل بالفرقة الرابعة مدرعات ، وأصبحت برتبة نقيب ، قال لي رئيس إشارة الفرقة / فؤاد نصار ( الذى عمل رئيساً للمخابرات الحربية خلال حرب رمضان / أكتوبر73 ) :

"لا بد من نقلِك إلى مكان آخر ، لتغـيير الدماء في الفـرقة" فطلبت منه أن يساعدني على الذهاب إلى اليمن ، كوسيلة لتحسين ظروفي المالية عن طريق بدل السفر . فوعدني خيرا ، ووافقت إدارة الإشارة على طلبه بنقلي إلى هناك ، لأن مكانته كانت وطيدة لديهم .
  • ·حرب اليمن :
ذهبت إلى اليمن في منتصف 1964 م ، وبقيت فيها حتى نهاية 1965 م ، وخدمت خلال ذلك في كل من "صَنعاء" ، و"الحُديِّدة" ، و"مأرب" . وساعدنى ذلك فيما بعد ، مع دراساتي المتخصصة في جامعة الدول العربية ، أن أشارك في برامج تذكارية كثيرة عن حرب اليمن ، في وسائل إعلام مختلفة ، مثل "العربية" ، و"سكاى نيوز" ، وغيرها .

وأذكر أن أمورنا فى اليمن كانت جيدة فى البداية ، ولم يخلُ ذلك من خسائر طبعا - كما هو معتاد في أي حرب - وكانت قواتنا هناك ، سرية واحدة أولاً ، ثم بدأت تتزايد حتى أصبح ثلث قواتنا هناك . وخسرنا في حرب اليمن شباباً ، وقادة من خيرة رجالنا ، ولكن اليمن كانت وستظل ذات أهمية خاصة لمصر ، نظرا لتحكمها في استقرار الملاحة عبر قناة السويس ، من موقعها المسيطر على باب المندب ، كما أن الشعب اليمنى كان مغلوباً على أمره ، ويعاني من الفقر ، والجهل ، والمرض ، متخلفاً مائتي سنة عن حياة العالم المعاصر وقتها . والحقيقة أن مصر وفّت بمسؤولياتها تجاه اليمن ، كونها أكبر دولة عربية على الساحة ، فأرسلت أطباءها ومعلميها على نفقتها إلى هناك ، إضافة لجـيشها ، وبنت المستشفيات ، والمدارس ، للنهوض بالشعب اليمنى ، مما أدى لازدياد العبء الاقتصادي عليها رويداً رويداً ، وتعرضت للاستدانة ، في أواسط الستينات ، قبل النكسة .

ويجوز لنا القول - من وجهة نظر شخصية - إن حرب اليمن ، كانت حرباً بالوكالة بين الغرب الاستعماري بقيادة بريطانيا وأمريكا ، وبمشاركة إسرائيل ، وبين الكتلة الشرقية الشيوعية بقيادة الاتحاد السوفيتي - الخصم التقليدي للغرب الاستعماري - على أرض اليمن .

وحين اجتمع قادة الدول العربية بعد نكسة 1967 م ، لتدارك آثارها ، في مؤتمر القمة العربية بالخرطوم ، تم الاتفاق على وقف القتال باليمن ، وانسحاب القوات المصريهّ تدريجيا من هناك ، مقابل توقف الأنظمة العربية الداعمة لحاكم اليمن السابق - الملقب بالإمام - فوراً عن تزويده بالمال ، والسلاح ، والمرتزقة .

وأسجل هنا للتاريخ ، أن جيشنا أظهر بسالة وكفاءة قتالية باليمن في مواجهة عصابات متخفية بين صخور الجبال ، وليس جيشاً نظاميا في المواجهة ، فكان تقدم رجالنا في اليمن – باستمرار - بطيئاً ومكلّفاً ، حيث يمكن لفرد واحد من أفراد العدو ، وهو كامن بين صخور الجبل ، أن يمنع كتيبة مدرعات من التقدم عبر أحد المدقّات ( طريق غير مرصوف ) أسفل الجبل ، بواسطة رشاش وبضعة قنابل م/ د ( مضادة للمدرعات ) . ولذلك كانت قواتنا محتاجة لدعم جوي باستمرار ، لتعويض تفوق العـدو في استخدام تضاريس الجـبال في التمترس والاختفاء ، وبالمسالك بين المدن ، في الوقت الذي لم تكن لدى جيشنا أي خرائط لتلك الجبال خصوصا ، ولليمن كلها عموماً . ورغم أن خسائرنا البشرية هناك لم تكن كبيرة ، إلا أن استنزاف مجهود جزء كبير من خيرة وحدات جيشنا ، مع التكاليف والأعباء الإدارية اللازمة لذلك ، كان مرهقاً للبلد .

ورغم كل ما سبق ، فإن الهدف الاستراتيجي من تأمين حرية الملاحة عبر قناة السويس ، والهدف السياسى من تحرير دولة عربية كان نصفها وقتها تحت الاحتلال . فى وقت كانت مصر تقود فيه الشعوب العربية للتحرر من الاستعمار ، وتسعى لتحقيق الوحدة الشاملة ، تحت شعار "القومية العربية" ، تهون أمامهما الأعباء المالية والعسكرية . إذ كانت القيادة السياسية ترى أن مساعدتنا لثورة اليمن ، ستشجع الشعوب في باقي الدول العربية على القيام بثورات مماثلة ، ضد الأنظمة الخاضعة للهيمنة الأمريكية ، مما يؤدي لتقليل النفوذ الأمريكى - والأجنبي عموما - في الوطن العربي بأكمله .

واكتسبت خلال عملي باليمن ، كثيراً من الخبرات ، وعملت أثناء ذلك مع القيادات اليمينة المناوئة للاستعمار البريطاني بشكل مباشر ، وكانت مهمتى الأساسية هي تجنيد اليمنيين ، ثَمَ أخذهم إلى معسكر التدريب على القتال واستخدام الأسلحة ، ثم إلحاقهم على الوحدات المقاتلة .

وأذكر أن اليمنيين تحت حكم "البدر" وقتها ، كانوا أُناساً معدمين وأُميّين ، وبعضهم لا يعرف حتى اسمه بالكامل ، ولا يعتنون بمظهرهم ، ولا بنظافتهم الشخصية ، ولذلك فإن اليمنيين في الحقيقة يدينون بالفضل لمصر وللمصريين ، في نقلهم نقلة حضارية باتساع مائتي عام للأمام .

وفيما يخص ذكرياتي الشخصية ، فقد كانت معاركنا في اليمن ، عبارة عن هجوم على جبال ، أو دفاع ضد هجوم من الجبال . ومرّت بي هناك مواقف شعرت فيها أنه يستحيل النجاة منها ، وأننى سأموت فعلا . وعدت من هناك ، إلى فرع الاستطلاع اللاسلكى بسلاح الحرب الإلكترونية ، وقد تمت ترقيتي إلى رتبة النقيب .

وحين أعلنت القوات المسلحة عن دورات للراغبين في تعلم اللغة العبرية ، بالفترة المسائية ، فور عودتي من اليمن ، سارعت بالتقديم فيها ، واستطعت خلال عامين إجادتها قراءة ، وكتابة ، وتحدثاً ، بحمد الله . وعند إنشاء فـرع الاستطلاع الإليكتروني ، ووصول الأجهزة اللازمة ، بحثوا بين ضباط سلاح الإشارة عمن يجيدون العبرية ، فتم اختياري ، ضمن من تم اختيارهم .

وذهبت لوحدتى أول مرة ، وأنا لا أعلم شيئا عن عملي الجديد . وبعد أن قابلت القائد واستمعت لشرحه ، جلست وسط زملائى لأعرف المزيد عن مهمتني ، التي هي جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عـن العدو ، عبر التصنت على اتصالاته ، ثم نقوم بإعداد تقرير مفصل قد يصل إلى 25 ورقة ، في المرة الواحدة من مناورات العدو مثلاً ، تحوي كل التفاصيل - ونرفعه إلى المخابرات ، التي ترفعه بدورها مع مرئياتها إلى مكتب وزير الحربية ، لاتخاذ القرارات بناء على ما تجمع لديها من مصادر المعلومات جميعها ، سواء المراقبة بالنظر ، أو كمائن جمع المعلومات على الضفة الشرقية للقناة ، أو التسلل لعمق العدو ، أو التصوير جوي ، أو غير ذلك .

كانت جميع الأجهزة المستعملة في التصنت ، وفي التشويش الإلكتروني ، تتبع سلاح الإشارة ، ولا تتبع المخابرات . ولأن جمع المعلومات عن العدو ، وتضليله ، هما ضمن مسؤوليات المخابرات الحربية بالأساس ، فقد كانت المخابرات هي مرجعنا فعلياً في العمل ، رغم كوننا - تنظيميا وإدارياً - تابعين لسلاح الإشارة . وكانت تلك التبعية المزدوجة ، تسبب بعض المشاكل أحيانا بين الإدارتين . فيمكن مثلا أن تطلب إدارة الإشارة نقل أحد الضباط من الوحدة التي يعمل فيها إلى وحدة أخرى ، ولكن إدارة المخابرات تعترض لكفاءته في عمله بالوحدة الحالية . ومع ذلك فإن وجود المخابرات الحربية مع سلاح الإشارة في المنظومة ، كان مفيداً أحياناً في دفع العمل . إذ يمكن تأسيس وحدة إشارة جديدة ، في منطقة نائية لا تصلها الكهرباء مثلاً ، فذا طلبت المخابرات توفير مولّد كهرباء فى المكان ، لإمكان إتمام المهام المطلوبة ، تم توفير المولد فوراً ، لأن موارد المخابرات أوفر ، ونفوذها أقوى . بينما لن تستجيب المخابرات بنفس السرعة ، إذا كان المكان الجديد تابعاً لسلاح الإشارة بمفرده .

أذكر أيضاً أن دراستى عن إسرائيل فى أكاديمية ناصر العسكرية كان تأثيرها كبيراً على عملي ، في توجيهي الاتجاه السليم عند تحليل واستقراء المعلومات ، وتحديد مصدر الإشارة . ف معرفتي مثلا بأن قيادة القوات البحرية الإسرائيلية تقع بحيفا ، بينما الموانئ فى كلٍ من أشدود ، وتل أبيب ، وإيلات ، تساعدنى على تحديد مكان انبعاث الإشارة ، هل هو فى المنطقة الشمالية ؟ أو الجنوبية ؟ وذلك من الحديث الدائر فيها ، وهكذا .

وكانت أول خدمتى كضابط استطلاع إلكترونى بالكتيبة 519 ، و في المعادى

ووجدت فى أول أيام عملي بالكتيبة - المُنشأة حديثاً وقتها - أن فنيّات العمل فيها عالية جداً . مما أعطاني إحساسا نفسياً بالرضا ، وازدادت خبراتنا وقدراتنا - أنا وزملائي - على التحليل والاستنتاج بالممارسة . فعندما كنا نسمع إشارة يقال فيها مثلاً : "01 يبلغ 02 : استعد" ، أو مثلاً "الكبير قادم" ، فهى إشارات لأمور مهمة ستحدث ، وعلينا أن نستخرج مما نسمع معلومات تفيد صانع القرار بالقيادة .

ورغم إعجابي بطبيعة عملي الجديد ، إلا أنني لم أستمر فيه إلا ستة أشهر ، من نهاية 1965 م ، إلى منتصف 1966 م . لأننى التحقت بكلية القادة والأركان ، فلم تكن تلك المدة كافية لاستيعاب كل تفاصيل العمل ، ولكنني أستطيع التأكيد أننا نحـصل عـلى الكـثير من المعـلومات عن العـدو ، بسهولة ، ووفـرة ، ووضوح ، بما لا يتخيله أحد . وجميعها معلومات يصعُب جداً الحصول عليها بالطرق التقليدية ، مثل ما يحصل عليه أبطال الاستطلاع من عمق العدو مثلاً ، وما تحصل عليه المخابرات بالتصوير الجوي ، وبجميع وسائلها الأخرى غير التصنت .

ومن ذلك أننا كـنا إذا أجـرى الصهاينة مناورة تدريبية مثلاً ، نستطيع تمييز الوحـدات المشتركة فـيها بأنواعها ، وأسمائها ، وأرقامها ، ومن أين تحركت ، وأين ذهبت ، ومواعيد بدء التمارين ، والوحدات المعاونة . فكانت الإشارات تستمر على مدار الساعة ، طوال المناورة . وكنت أنا - كرئيس للوحدة - حين يتملكنى التعب أثناء ذلك ، أنام ساعتين أو ثلاثة ، ثم أستيقظ لاستئناف العمل مع زملائى ، حتى لا يفوتنا أى جزء من المناورة . فإذا رفعنا تقريرنا بعد انتهائها ، نشعر بسعادة ، وراحة نفسية ، تعوضنا عن المجهود الذي بذلناه ، وتزيدنا اعتزازاً بأهمية دورنا في دعم قواتنا المسلحة ، بالرغم من أننا لسنا وحدة مقاتلة .

في عام 1971 م ، تم اختياري لحضور دورة مدتها ثلاثة أشهر بالاتحاد السوفييتى ، عن الاستطلاع الإلكترونى ، وأسلوب تحليل البيانات . وكان الخبراء السوفييت في ذاك الوقت ، موجودين في مصر أيضاً ، للإسراع بإتقاننا للعمل .

وكنا فور التقاط أي إشارة ، نقوم بتشغيل أجهزة تحديد الاتجاه ، في مكانين آخرين بالتزامن معنا ، كـمرسى مطـروح ، والأقصر مثلاً . ليمكن تشكيل مثلث افتراضي على الخريطة ، يمثل إحداثيات مصدر الإشارة وفق تقديرات الأجهزة الثلاثة ، مما يساعد على تحديد إحداثيات مصدر الإشارة بدقة . وخلال مدة أقصاها دقيقة أو اثنتين من انتهاء الإشارة ، نكون قد أتممنا كتابة مضمونها ، وإحداثيات مصدرها ، في تقرير يتم رفعه فوراً للقيادة . وكان نشاطنا يغطي خط القناة ، وشبه جزيرة سيناء ، وفلسطين المحتلة بالكامل ، ومصر بالكامل أيضاً . وكانت الوحدة تعمل بكفاءة 100% قبل النكسة .

وكنا للتأكد من أن الإشارة الملتقطة حقيقية ، وليست مزيفة Fakeلتضليلنا ، نستخدم أكثر من مجال موجي واحد في التصنت ، مثل مجالHF ، ومجالVHF معاً ، فإذا كانت الإشارة ملتقطة في كلا المجالين ، تأكدنا أنها حقيقية . وأذكر أن اليهود فى بداية حرب 1967 م ، كان يتكلمون فيما بينهم بشكل مفتوح غير مشفّر ، وعندما أدركوا أننا نسمعهم ، بدأوا يتعاملون بالشفرة . فلكى يضرب منطقة الشاطيء فى السويس مثلاً ، يقول "اضرب أخضر" ، وكنت في البداية عندما ألتقط الإشارة ، أبدأ فى تنبيه المناطق القريبة منى بأنه سيتم الضرب ، لكنّى لا أعلم المكان بالضبط ، ثم بعد الضرب أعرف أنه كان فى شاطىء السويس ، ومع التكرار أتأكد أن "أخضر" تعنى شاطىء السويس ، فأصبحت إذا تأكدت أن الإشارة حقيقية ، وليست للتضليل ، أرسل التنبيه مُحدَداً فيه الموقع أيضاً .

وأذكر أن الصهاينة ، وصلت لهم في وقت من الأوقات أجهزة حديثة تحول الكلمات بالصوت العادي إلى أصوات لا يمكن تمييزها ، إلا باستعمال جهاز مقابل يعيد تحويل تلك الأصوات إلى كلمات مرة أخرى . فكانوا هم باستمرار يحاولون التعمية علينا بطريقة ، ونحن نحاول في اتجاه معاكس بطريقة أخرى . وجدير بالذكر أنه كان لدينا زملاء مختصين بالتصنت على قاعدة هيروكليز الأمريكية فى طرابلس بليبيا تحديداً ، وعلى الأسطول السادس الأمريكي في البحر المتوسط أيضاً .
  • ·حـرب 1967 م :
بعد أشهر قليلة من التحاقي بكلية القادة والأركان ، في أكاديمية ناصر العسكرية ، وبالتحديد فى 15 مايو 1967 م ، تم رفع درجة الاستعداد ، ووقف الدراسة بالمعاهد التعليمية ، ورجوعنا لوحداتنا الأصلية ، وذلك لتوزيعنا من جديد على الأماكن الشاغرة فيها . ولكوني ضابط إشارة ، لا ضابط مخابرات ، فقد تم توزيعى على الكتيبة رقم 619 ، المسؤولة عن تشغيل محطة رادار سيناء . وكان الفريق / محمد فوزى رحمه الله ، قد أجرى تغييراً في قياداتها للتو ، ووصلنى خطاب التوزيع يوم 22 مايو 1967 م ، فتوجهت إلى قيادة القوات الجوية ، لأن الرادار كان تابعاً لها ، وقابلت رئيس فرع الرادار هناك ، فأمرنى بالعودة للمنزل ، والرجوع في اليوم التالى ، للسفر إليها سوياً ، ووصلنا قياده الكتيبة فى المليز يوم 30 مايو ، فتركني هناك ورجع إلى القاهرة ، وتسلمت القيادة ، ورأيت هنالك أجهزة الرادار ، وكيفية عملها والنظام الإداري للعمل ، وكان نطاق المحطة يغطي سيناء بالكامل ، وكان موقعنا على الطريق الرئيسى لمطار المليز ، فرأيت ضغطاً ، وحشوداً كثيرة تتحرك عليه ، وبدأنا نسمع عن تعديلات فجائية في قيادات المنطقة ، فشعرنا بوجود حالة من التخبط لا تناسب استعدادنا لمعركة تبدو قريبة ، وهو ما يدل في نظري على أن الهزيمة لم تكن بسبب أبطالنا المقاتلين في الجيش ، وإنما بسبب أخطاء جسيمة من القيادات العليا ، ومن أدلة ذلك ما يلي :

01 - دخلنا الحرب وقواتنا بسيناء تعمل تحت ثلاثة قيادات في وقت واحد ، لواء / صلاح محسن قائد المنطقة الشرقية ، وفريق / عبد المحسن مرتجى قائد القوات البرية المتقدمة ، والمشير / عبد الحكيم عامر وزير الحربية ، فكان حدوث تضارب فى الأوامر وارداً ، لتعدد مراكز القيادة .
  1. كانت هناك تقارير أمام رئيس الجمهورية بأن القوات المسلحة ليست جاهزة لدخول حرب جديدة موازية الآن ، نظراً لوجود الجزء الرئيسي منها فى اليمن ، والمتوفر حاليا ، لا يكفي لذلك .
  2. كانت الطائرات المصرية بالكامل في عموم مطارات مصر ، رابضة مكشوفة على الأرض ، دون دشم ( ملاجىء حصينة ) ، ولا أى تّأمين . ورغم أن قائد سلاح الطيران وقتها رفض فكرة ترك إسرائيل تبدأ بالهجوم ، لئلا نفقد سلاحنا الجوي كله بسبب ذلك ، إلا أن الرئيس جمال استجاب لتطمينات عامر وزير الحربية ، بأن قواتنا المسلحة ، على وضعها حينئذ جاهزة للحرب .
  3. أما باقي قيادات الصف الثاني ، فكان لديهم خطأ في تقدير الموقف ، وربما ظنوا أن الأمر لن يعدو مظاهرة عسكرية ترهب الصهاينة عن مهاجمة الشقيقة سوريا ، مثلما حدث عام 1960 م ، حتى أنه تم تنظيم حفل ترفيهي لطياري القوات الجوية في الليلة السابقة على النكسة ، في وقت يُفترض فبه أنهم في الحالة (ج) تأهب داخل طائراتهم ، أو على الأقل متواجدين بجوارها جاهزين للإقلاع ، عند أي طارئ .
  4. في الصباح الباكر من يوم 05 يونيو كان وزير الحربية ، فى الجو على متن طائرته العسكرية فوق سيناء ، مما يوقف وسائل الدفاع الجوى عن العمل ، وكانت إمكانيات العدو عالية ، وأمريكا تمده بالمعلومات عن طريق سفينة التجسس "ليبرتي" التابعة لهم في البحر المتوسط ، فالغالب أنهم عرفوا بالخبر ، وانتهزوا الفرصة .
  5. لم تسمح القوى العظمى لمصر أن تبدأ بالهجوم ، بالتصريحات الإعلامية الخادعة من جهة ، وبحجة أن بدء مصر بالهجوم سيحرمهم إمكانية دعمها ، لظهورها بمظهر المعتدى ، من جهة أخرى ، مما أعطى ميزة فارقة للعدو .
  6. 07. رغم انصياع الرئيس جمال رحمه الله للسوفييت ، بألا تكون مصر هي البادئة بالحرب ، فقد تخاذلوا عن دعم مصر بعد الهجوم عليها . غير ما تبين لاحقاً - بعد وفاة جمال عبدالناصر بسنوات طويلة - أن الخبر الذي نقلوه له بوجود حشود إسرائيلية على الجبهة السورية ، لم يكن صحيحاً ، بل قيل إن موشى ديان اصطحب السفير السوفييتي فى طائرة هليكوبتر فوق هضبة الجولان ليتحقق بنفسه من عدم وجود أى حشود مزعومة عليها . أي أن الاتحاد السوفييتي لعب معنا لعبة قذرة ، باستدراجنا لحرب لم نكن جاهزين لها .
وقد رأيت بنفسي قواتنا التى يتم حشدها قبل النكسة مباشرة ، عبارة عن أفراد قد تم تجميعهم من المدن والقرى ، على عربات النقل العسكرية بالجلاليب ( ثوب شعبي تقليدي ، أشبه بكيس من القماش بطول قامة الإنسان ، ذي فتحة للرقبة ، وأكمام للذراعين ) ، والأطقم - التي يفترض أنها مقاتلة - يتم تكوينها ، وتدريبها على استعمال الأسلحة والمركبات قبل الحرب بأيام . لكن بالنسبة لطاقم الرادار بشكل خاص ، فكانوا أبطالاً ذوي كفاءة عالية ، لأن أغلبهم كانوا من المتطوعين (ضباط صف محترفين ، وليسوا من مجندي الخدمة الإلزامية المؤقتين ) قد تمرّسوا على الأجهزة جيدا ، وعملوا عليها لسنوات . وكانت القوات الجوية تتخير المتطوعين لتشغيل الرادارات ، لأن الأجهزة غالية ، فلا يعمل عليها إلا ذوي الخبرة ، المستمرين في الخدمة لفترات طويلة .

وفي صباح 5 يونيو ، كنا مجتمعين فى الطابور اليومي ، لأخذ تمام الكتيبة كالمعتاد - لغير المناوبين على الأجهزة - وكنت أنا الضابط رقم 02 في الكتيبة بعد قائدها المقدم / يسرى ، وكان قد تم تعيينه حديثا من القوات الجوية ، مثل معظم قادة الوحدات في سيناء وقتها . وكان باقى الكتيبة من الورش والشئون الإدارية . وبحكم أننى ضابط إشارة ، فكنت منشغلاً بأعمالي الإدارية الكثيرة ، وكان معي أحد المساعدين فى الخيمة ، فسمعنا فجأة أصوات الضرب ، فأمرته أن ينظر في الخارج ، ليخبرنى عما حدث ، ولكنه ما أن خرج حتى توالت أصوات الانفجارات ، ولم يرجع المساعد مرة أخرى ، فخرجت لأستطلع الخبر ، فإذا طائراتنا يتم ضربها على الأرض فى المطار ، والنيران مشتعلة فيها ، فعرفت أن الحرب قد بدأت ، رغم أني لم أكن لاحظت أي شوشرة ، أو أي شيئ غير عادي قبل الهجوم ، ربما لأنهم بدأوا التنفيذ مبكراً بعدما علموا بأن طائرة المشير في الجو ، وربما كانوا ينوون بدء الشوشرة بعد الهجوم مباشرة ، من السفينة الأمريكية . لكن بعد الهجوم لم تكن هناك حاجة للشوشرة أصلاً ، لأن معظم الأجهزة كانت قد ضربت وانتهى الأمر . وبعد ضرب الطائرات ، والممرات ، وجميع المنشآت ، لم تخرج أى طائرة من المطار ، ولم تعد هناك طائرات لتخرج أصلاً .

وشعرت وقتها كأن الدنيا قد أظلمت ، وأن ما يحدث هو تكرار لما حصل في 1956 م . وأدركت أنه إذا كان باقي سلاحنا الجوي قد تم تدميره مثل ما حصل عندنا في المليز ، فإن الأمل ضعيف فى توقف الحرب الآن . وبقيت خطوط اتصالنا مع القيادات معطلة حتى مساء يوم 06 يونيو . وكلما حاولنا إصلاح هوائيات الاتصال أو الرادار ، ضربها الصهاينة مرة أخرى ، فأُصبنا بخسائر عالية فى المعدات ، والأفراد كليهما . ولم نكن قد جهزنا ملاجيء لنا بعد ، معتبرين أن ذلك تحصيل حاصل ، وأن الحرب لن تقوم بتلك السرعة أصلاً .

وانقطعت جميع الاتصالات بالكامل ، وعلمنا ببدء انسحاب قواتنا ، فخرجنا فى اليوم الثالث مع قائد الكتيبة سيراً على الأقدام - بمبادرة منه - قاصدين الضفة الشرقية للقناة على بعد 60 كيلومتراً ، فى نفس اليوم ، محاولين الوصول إليها بأقصى سرعة وبأى وسيلة ، فتحركنا مع آخر ضوء - تحرزا من الغارات المعادية أثناء النهار - ونحن فى حالة انهيار ، لا نعلم أى نوع من الكوارث بانتظارنا ، وإلى أي مدىً سيصل العدو ، وفي الطريق ، رأيت عرباتنا وقد تم قصفها ، وعربات أخرى يتم قصفها أثناء مرورنا ، وعربات مقلوبة ، أو محطمة من حوادث التصادم بسبب السرعة الزائدة ، ووصلنا القناة في التاسعة مساء تقريباً ، وانتظرنا دورنا ، حتى عبرنا عند الثانية صباحاً تقريباً ، وكانت محنة شديدة للقوات المسلحة .

وبعد العبور ، توجهنا إلى قيادة المنطقة الشرقية ، وبقينا فيها يوما واحداً ، ثم تلقينا الأوامر بالالتحاق بوحداتنا في القاهرة . وفى معسكر الجلاء ، وجدنا القيادات كلها منهارة ، وجميع الوحدات تحاول الاتصال بقياداتها لتعرف الأخبار ، وتأخذ التعليمات ، ولكن لا توجد أى معلومات لدى أي أحد ، والقيادات العليا غائبة عن المشهد .

وفي يوم 09 يونيو ، كان صوت خطاب التنحي مسموعاً في إدارة الإشارة ، وهم مشغولين بالبحث عن أماكن لتوزيعنا . وكان لذلك تأثيراً صادماً علينا ، ورأينا الجماهير هائمة على وجهها فى الشوارع ، حيارى فيمن يمكن أن يتولى المسؤولية بعد عبدالناصر ؟ وما هو مصيرها ؟ ، وكنا كعسكريين نبتعد عن مناقشة المدنيين ، لأنهم ظنوا أن مقاتلي الجيش تخاذلوا ، وفروا من المعركة ، وصاروا بذلك مسؤولين عن الهزيمة ، مع أن الحقيقة أن كل فرد فى الجيش كان يقوم بدوره في موقعه ، بينما القيادات العليا أخلت بالأمانة .

بعد رجوعي للمنزل ، ظل الصمت هو سيد الموقف ، وأعطتهم رؤيتهم لي - سليماً معافى - شيئاً من العزاء ، لكن الصورة العامة لوضع البلد ككل كانت مظلمة ، ورأيت السؤال الحائر في أعينهم : "كيف تكون فى البيت بعد 03 أيام فقط من بدء الحرب !!؟" ، فكانت المرارة شديدة ، وظللت مختبئاً طوال فترة وجودي هناك ، لا أقابل أحداً ، وتصيبني حالة هيستريا ، كلما سمعت أى صوت مرتفع ، من هول ما رأيت وسمعت في الأيام الثلاثة التي حضرتها على الجبهة قبل عودتي ، وأثناءها .

وفي يوم 13 يوليو 1967 م ، تم توزيعى على كتيبة الاستطلاع اللاسلكى بالمعادى مرة أخرى ، بسبب مؤهلاتي ، وسمعت من زملائى هناك ، أنه كان هناك حشد ظاهر للعدو قبل الحرب ، وشاركوني الظن أن القيادات لم تأخذ ذلك على محمل الجد ، وأفرط بعضهم في الثقة الزائدة بالنفس ، فنتج عن ذلك إحساس كاذب أن الحرب ستكون تظاهرية ، ثم تنسحب إسرائيل كما حصل عام 1960 م . ولكن وجهة نظر العدو كانت مختلفة . وأتصور أن الخطأ كان من القيادتين العسكرية والسياسية ، من حيث اندفع الرئيس عبدالناصر رحمه الله لتصعيد الأمور ، استناداً على تأكيد المشير له أنه مستعد للحرب - بخلاف الحقيقة - ومتجاهلاً تقارير مخابراته بذلك . ولكن حتى لو فرضنا أن المشير كان على صواب ، فلماذا أهدر قاعدة أساسية من قواعد الحرب ، وهي أن "الحرب خدعة" ، وأستجاب للقوى العظمى ، فوافق أن نتلقى الضربة الأولى ، بينما سلاحنا الجوي كله مكشوف على الأرض ؟ والعلم العسكري يقول : "إذا خسرت سلاحي الجوي ومطاراتي معا في الضربة الأولى ، فكيف يمكن أن أكمل الحرب بعد ذلك ، وأنتصر ؟

فكان علي أن أفعل ما أراه صواباً لمصلحة وطني ، حتى ولو خالف ذلك رأي القوى العظمى ، التي تبين بعد ذلك أنها تواطأت على خداعي ، وساعدت على هزيمتي .

ولا زلت أذكر صدمة التنحى تلك ، لأنني مثل أى مواطن عادى ، كنت أنظر للرئيس جمال رحمه الله ، كزعيم وقائد كبير ، أشعرنا إعلانه الاستقالة أن الموقف فى القوات المسلحة قد تأزم ، وتوجسنا أن تنحيه سيودي بنا للانهيار الكامل لا قدر الله ، كما أننا كنا في أمس الحاجة لعلاقاته بالكتلة الشرقية عموماً ، والاتحاد السوفيتى خصوصاً ، لأن كل مشتروات العسكرية من عندهم . مع إحساسنا أن أمريكا وإسرائيل لن تتوقفا عن محاولة ضرب مصر ، مثلما حدث في 48 ، ثم 56 ، ثم 67 أيضاً ، أي بمعدل حرب كل عشر سنوات تقريباً . ولذلك دعم الشعب كله عبدالناصر كقائد ، ورمز ، وقامة شامخة ، لا ينبغي أن تسقط في ذلك الوقت .

وعلى طريق مداواة آثار النكسة ، وإعادة بناء جيشنا وقوتنا ، أصابتنا صدمة جديدة بوفاة الرئيس جمال رحمه الله ، وحضرنا جنازته ، تغمرنا الأحزان مريرة لفقده ، خاصة وأن وفاته اقترنت بمصيبة أخرى هي أزمة الاقتتال بين الأشقاء الأردنيين والفلسطينيين في الأردن .

وأعود بالذكريات لكتيبتي بعد النكسة مباشرة ، حيث كان موقفها صعباً جداً ، وخاصة حين تبين أن السرية التابعة لها بالعريش ، بقوة 30 إلى 40 فرداً بضباطهم ، بما فيهم الملازم أول / جمال عقيلى ، والملازم / سيد ، والملازم / محمد الحسينى ، قد انتهت بكاملها ، ولم يعد منهم أحد ، وكانت الصدمة ثقيلة فعلاً .

للمزيد من التفاصيل يرجي مشاهدة شاهد علي هزيمة يونيو / الرائد محمد الحسيني - الجيل الاول لسلاح الحرب الالكترونية يصف ما حدث له خلال هزيمة يونيو 1967 - سلسلة حلقات رائعة عن فترة 67 وحتي الاستنزاف

1كنا نسمع كل شئ في اسرائيل أضغط للمشاهدة

2 حذرنا القيادة بإن الحرب غدا أضغط للمشاهدة

3رحلة الانسحاب المستحيلة سيرا علي الاقدام أضغط للمشاهدة

4 كنا نسمع لهوهم مع النساء في خط بارليف أضغط للمشاهدة
  • ·عودة الوعي :
بدأ الجيش كله في النهوض والاستفاقة من النكسة ، محاولاً نسيان الماضي ، وفتح صفحة جديدة بأسرع ما يمكن ، استعداداً لما هو آتِ لا محالة بإذن الله ، من تحرير الأرض ، واستعادة الكرامة .

واستأنفنا العمل ، وقد تعلمنا من النكسة أن نركز على المعلومات الأَوْلَى بالتحصيل قدر ما نستطيع . وكانت الوحدة محتاجة لإمكانيات كى تستعيد القيام بدورها مجدداً ، وظهرت عندنا مشكلة فى كلٍ من استعواض الأفراد ، والتنظيم ، والمعدات . وهى المتطلبات الطبيعية لأي سلاح للوقوف من جديد وبدء العمل . لكنّ أمرنا كان أكثر صعوبة ، لاحتياجنا لأفراد يجيدون العبرية .

ولمّا كان دورنا في التصنت يعتمد على أجهزة الاستقبال فقط ، وهي تعمل بأطقم عددها أقل مما تحتاجه أجهزة الإرسال والاستقبال معاً . فكنا إذا طلبنا زيادة عدد أفراد الوحدة لملاحقة زيادة عدد الأجهزة ، يستغربون ذلك ، ويقولون "إنتم شغالين استقبال بَسّ (فقط) !!" ، فنضطر لتشغيل كل جهازين بطاقم واحد من ثلاثة أفراد . أما عن الأجهزة نفسها ، فكانت شبه محرمة في أسواق السلاح العالمية ، أن تصل إلى دول مثل مصر . فتعبنا جداً خلال فترة التجهيز لحرب التحرير رمضان / أكتوبر المجيدة ، وفي إعداد جيل يجيد العبرية ، خاصة ونحن نتبع إدارة المخابرات الحربية والاستطلاع من جهة ، وإدارة الإشارة من جهة أخرى . وكنا حين نكتشف أن شبكة من شبكات العدو قد انقسمت إلى شبكتين أو أكثر ، نبدأ في الشرح لهم لماذا نحتاج لأفراد إضافيين ، وأجهزة جديدة . وظللنا نعاني من تلك الازدواجية ، من التبعية عملياتياً ( تكتيكياً ) للمخابرات الحربية ، وإدارياً لسلاح الإشارة ، حتى عام 1970 م -1971 م ، حين تم ضمنا إدارياً كذلك إلى المخابرات الحربية والاستطلاع .

لم يكن قد بقي لدينا في الكتيبة بعد النكسة سوى مترجمين اثنين ، فكان لزاماً علينا تعويض الفاقد ، وكانت كليّتا آداب القاهرة ، وعين شمس ، هما فقط اللتان تحويان قسماً للغة العبرية . فحصلنا من قسمي "التسجيل" بالكليتين على عناوين الخريجين ، وأرسلنا إليهم مندوبينا في منازلهم يحفزنوهم على التعاقد معنا مباشرة ، للعمل فى وحدات التصنت ، أو على الأقل تدريس اللغة العبرية لرجالنا الجدد . وكانت إدارة المخابرات الحربية تعطى شهادة للفرد الذي يجتاز الدورة بنجاح ، ومكافأه حوالي 50 قرشاً أو جنيهاً كاملاً . وفكرت أن أستفيد من هؤلاء المدرسين - خلال فترات تدريسهم لرجالي الجدد - في العمل كمستمعين مشاركين مع رجالي القدامى في الكتيبة ، ووافقت المخابرت على ذلك . حتى وصلت قوة الكتيبة إلى أربعمائة فرد .

ومع نهاية شهر يونية 1967 م ، بعد النكسة مباشرة ، كنا قد فكرنا في إنشاء مركز تصنت جديد فى السويس ، لكونها في منتصف خط الجبهة بين بورسعيد ، وشرم الشيخ . وفكر قائد الكتيبة المقدم / اسماعيل شوقى أن يسند إلىّ قيادة المركـز الجديد . فذهبنا سوياً لاستطلاع المنطقة ، ووجدنا على الشاطىء عند مرسى المعـدِيّات ( سفن مسطحة للعبور بالناس والسيارات ذهاباً وإياباً بين ضفتي القناة ) غرفة مكتب مخصصة لموظفي الجمارك ، فرأى قائدي أنها تفي بالغرض ، وكنت أنا أرى أنها لا تصلح ، لكونها ظاهرة بوضوح على الشاطىء ، وفى مرمى نيران العدو بأبسط بندقية لديهم . كما أن أجهزتنا وهوائياتنا كبيرة يصعب إخفاؤها فيها . لكنى لم أعارضه ، لكيلا يظن بيَ الجُبن . ويشاء الله تعالى حين رجعت بعدها بيومين إلى الموقع مع ضابط زميل ، مصطحبين تجهيزاتنا ، وبدأنا في تنزيلها ، أن يمرَّ بنا المقدم / أحمد بدوى - الفريق / أحمد بدوي فيما بعد - رئيس عمليات الفرقة السابعة حينئذ ، والتي تقع الغرفة في نطاق عملها . فسأل رجاله عنا ، ثم جاء إلينا ، وتعارفنا ، ثم سألنى بغضب عن سبب وجودنا في ذلك المكان ، فأخبرته ، فتعجب من ذلك ، وقال: "أنا ذاهب إلى السويس لمدة ساعة ، وعند عودتى ، لا أريد أن أراكم هنا " ، فوافقت طبعا على الفور ، ثم توجهت بسيارتي العسكرية إلى مكتب مخابرات السويس ، حيث قابلت المقدم / أحمد حلمى ، الذي استمع لقصتي ، ثم أمرنى أن أجد مكاناً مناسباً غير الذي رفض المقدم / بدوي الموافقة عليه . فرجعت لاستكشاف المنطقة ، وما هو إلى وقت قليل ، حتى وجدنا فعلاً مكانا آخر ، على بعد كيلو متر واحد من المكان الأول ، وعبارة عن فيلا مهجورة ذات طابقين ، أمامها وحدة صحية . فدخلناها ونصبنا أجهزتنا بداخلها ، وبدأنا العمل ، وبقينا فيها ما يقرب من ثلاثة أعوام ، لم يلحظنا أحد . وعملت مع زملائي فيها أربعة أشهر تقريباً ، حتى استقرت أمورها ، ثم رجعت إلى مقر الكتيبة . وكانت تلك هى بداية إنشاء نقاط الاستطلاع الإليكترونى المتقدمة ، على طول خط الجبهة .

مع بداية يوليو 1967 م ، كانت الروح قد عادت من جديد لقواتنا المسلحة ، وتم استكمال التشكيلات ، إما بأفراد جدد ، أو بالمصابين والمفقودين بعد عودتهم للخدمة ، وذلك للقيام بمهام دفاعية كمرحلة أولى .

وبدأنا نتنصت على العدو ، وكان التصنت هو الوسيلة الوحيدة المتاحة وقتها ، لجمع معلومات دقيقة عن تحركاتهم على الجبهة أولاً بأول . وكان العدو إبان ذلك منهمكاً في إنشاء مواقع دفاعية ، لتثبيت أقدامه في أرضنا . وبدأنا نسمع تخاطَبهم في اللاسلكي بدون تكويد ( شفرة ) ، فعرفنا أسماء القادة ، وأسماء معاونيهم ، وأماكن تمركز وحداتهم . وبالتدريج ، تكونت لدينا صورة واضحة لقوات العدو على أرض سيناء الحبيبة .

وكان العدو - خلال ذلك - مجتهدا في مراقبتنا أيضا ، من نقاط ملاحظة على طول الجبهة . لكن قدرتنا على التجسس عليهم كانت أكبر ، وممتدة بعمق ثلاثين كيلومتراً خلف خط القناة ، وخمسين عند صفاء الجو .

وبالنسبة للخبراء السوفييت ، فأستطيع القول أننا استفدنا منهم جداً في الحقيقة ، وكان عملي وقتها فى تحليل المعلومات البرية ، أحد الفروع الثلاثة للمعلومات ، وكان عندنا خبيران فى الفوج أحدهما فنى متخصص فى إصلاح الأجهزة والآخر تكتيكي متخصص في تقنات الاستطلاع ، وكان معهما مترجم ، فكانو متعاونين جداً ، وعلّمونا كيفية جمع المعلومات وتحليلها لاستخلاص النتائج منها ، وكيفية تحديد الاتجاهات ، وكانت التعليمات أن نتعامل معهم بشفافية ، وبشكل مفتوح .

وبدأنا في إنشاء مراكز تصنت جديدة ، بطول خط الجبهة ، جهتي اليمين واليسار ، من الغردقة إلى بورسعيد ، لنغطى مجالاً أوسع . وقمنا بتحريك جهاز تحديد الاتجاه لدينا أكثر من مرة ، لتحديد مصادر إشاراتهم بدقة أكثر . وكنا نشعر بسعادة ورضا غامرين ، بقدرتنا على استخلاص ذلك القدر الهائل من المعلومات التفصيلية أولا بأول عن العدو .

ثم بدأت اشتباكات حرب الاستنزاف ، فكنا نسمع مثلاً : "اضرب هدف كذا" ، فنبلغ ذلك فوراً لقيادة الكتيبة ، والكتيبة تنقل ذلك بدورها إلى قيادة القوات الجوية ، أو البحرية أو المخابرات ، حسب الأحوال ، عبر خطوط اتصال مباشرة ، لا تستدعي وقتاً في التحويل . وكانت وحدات جيشنا ، تنتظر منا كل معلومة متاحة عن تحركات العدو ، لاتخاذ الإجراءات المناسبة ، بشكل مُحكَم وفوري .

وأذكر أننا كنا نستطيع سماع اتصالات العدو في العريش وبئر العبد ، من بورسعيد ، وكان لدينا أجهزة بعينها مخصصة لشبكات قواتهم الجوية ، فكنا نسمع الطيار يقول مثلاً : "أنا فوق القنطرة" ، أو " أنا فوق المليز" ، وكانت تلك المعلومات جيدة لقواتنا الجوية ، وتعلمنا منها كيفية تمييز أنواع الطائرات حسب سرعاتها في الوصول من نقطة لأخرى ، أو حين يصرح الطيار نفسه في اللاسلكي : " الفانتوم الخاصة بي فيها كذا" ، ولم يكن العدو متخيلاً أننا عُدنا بتلك السرعة ، وأننا نستمع إليهم كأننا معهم . وعند قيام أبطالنا بضربات جوية عليهم ، أو عمليات على الأرض في سيناء ، كنا نسمع بلاغاتهم بأعداد قتلاهم ومصابيهم بعد كل عملية ، فكنا نحن المصدر الأساسى لقواتنا ، لتأكيد خسائرهم . وسمعناهم في حرب رمضان / أكتوبر 1973 م بوضوح ، وهم يصرخون محذرين طياريهم ، من الاقتراب أكثر من مسافة 15 كيلومتراً شرق القناة .

أذكر أيضاً أن رئيس فرنسا / شارل ديجول كان قد هدد قبل النكسة ، إنه لن يتم بيع الأسلحة الفرنسية لأي طرف يكون هو البادئ بالحرب ، ومنع البيع فعلا لإسرائيل بعد النكسة ، وكانت الصهاينة قد تعاقدوا معهم قبلها على سبعة زوراق دورية ، وظلت تلك الزوارق محجوزة في أحد موانئ فرنسا ، حتى سرقها الصهاينة من هناك ، وتوجهوا بها عائدين إلى فلسطين المحتلة ، وكنا نحن نرصد اتصالاتهم أثناء تحركهم ، ونبلغ بها مخابراتنا أولاً بأول .

وحين أغرقت قواتنا البحرية الغواصة داكار في يناير 1978 م على حافة مياهنا الإقليمية ، رصدنا ضربها ، وبلاغاتهم بالخسائر ، ومحاولتهم الاستطلاع فوقها بالطائرات لانتشال الناجين من طاقمها ، لأنها ضُربت وهى طافية فوق سطح البحر . ولكنهم أخفوا الخبر ، ولم يفصحوا عنه إلا مضطرين بعد توقيع اتفاقية السلام ، لطلب مساعدتنا في انتشال ما قد يمكن العثور عليه من بقايا رفات قتلاهم ، وأجزاء الحطام

أذكر أيضاً أن طائرات العدو يوم أغارت على أبي زعبل ، أبلغنا نحن عن المطارات التي يجري الاستعداد فيها لذلك . وتعلمنا بالخبرة أن موقع كذا يتراوح معدل إشاراته بين عشرين وثلاثين إشارة يوميا مثلا ، فإذا ارتفع المعدل إلى مائة إشارة في أحد الأيام ، فهمنا أن هنالك شيئاً غيرُ عادي - حتى لو كانوا يتعاملون بالشفرة - فنركز عليه أكثر ، وتكون لدينا فرصة أكبرلإنذار وحداتنا المستهدفة ، عن طريق قيادتنا بالمخابرات الحربية . وكانت قيادتنا لا تعطينا إفادة عكسية Feed back عن نتائج بلاغاتنا ، ربما للحفاظ على السرية . وربما لو كان أتيح لنا أن نعرف تأثير بلاغاتنا ، لكنا سنصبح أكثر رضاً ، وسعادة بنتائج عملنا .

كنا أيضاً في الحالات التي تقوم قواتنا فيها بغارات أو كمائن خلف خطوط العدو ، وتعود بأسير أو اثنين ، نرسل لهم رجالاً من أبطالنا للتنسيق معهم قبل الخروج للعملية ، بغرض تحقيق الاتصال بينا وبين غرف عملياتهم ، وتزويدهم لحظيا أثناء العملية ، بما نحصل عليه من معلومات ، قد تكون مفيدة لهم . وقد ساعدنا في كثير من المرات ، أن تتم العمليات بأقل خسائر ، بأن نخبرهم أن دبابات العدو في منطقة كذا مثلاً ، قد بدأت في التحرك باتجاههم ، وأصبحوا على مسافة كذا منهم ، فينسحبون في الوقت المناسب ، حتى لو لم تكتمل جميع مهام العملية . وكان رؤساء وحدات الاستطلاع يمرون عندنا باستمرار ، لمعرفة المواعيد السارية وقتها لدوريات العدو ، فيتمكنون من حساب التوقيتات المناسبة لتنفيذ عملياتهم .

ومع حلول منتصف عام 1969 م ، كنا قد أكملنا الإقفال على جميع شبكات الاتصال في فلسطين المحتلة ، بعد إضافة العديد من مراكز التصنت الجديدة . ومع الخبرة ، أصبحنا ننتخب أهم الشبكات لدى العدو ، فنكلف بطلاً واحداً بمتابعة ترددين أو أكثر فى وقت واحد ، وفى بعض الأوقات تكون الشبكة صامتة ، فيتابع شبكة ثالثة نشطة حتى تعود الأولى للعمل . فكان أغلب رجالنا أمامه جهازان أو أكثر ، يتم ضبط كل منها على الترددات المهمة وقتها . وذلك لتعويض نقص إمكانيتنا أمام تعدد شبكات العدو . وقد نستخدم أجهزة إضافية - إذا توفرت - للترددات الأقل أهمية.

وكان العدو يحاول تضليلنا ، بأن يعمل على شبكة معينة شهراً ، ثم يغير ترددها . وأحيانا يغير التردد كل خمسة عشر يوماً ، أو حتى كل أسبوع . أما الشبكات المهمة جداً ، فكانت تغير ترددها كل يوم تقريبا . لكن من متابعتنا لهم بتركيز شديد ، يكتسب كل واحد من أبطال التصنت ، خبرة ثمينة بشبكة معينة أو أكثر ، سواءً من نبرات صوت أحد مستعمليها ، أو من لغة مميزة لدى أحدهم ، أو من لازمة كلامية يستعملها باستمرار مثلاً ، فيتمكن من تمييز الشبكة ، وإمساكها مرة أخرى بسرعة وسهولة ، حال تجوله بين الموجات . وكانت هناك كتائب زميلة ، قائمة بالإعاقة والشوشرة على اتصالات العدو ، بالتوازي والتنسيق معنا . وكان أحد الزملاء من مندوبيهم مقيماً معنا بشكل دائم ، لتحديث قـيم الترددات لشبكات العدو ، وإبلاغها لباقي زملائه أولاً بأول .

وأذكر أنه جاءتنا تعليمات ، عند اغتيال الشهيد / عبد المنعم رياض رئيس أركان القوات الملسحة أثناء ذلك رحمه الله ، بالتصنت على شبكة قوات حفظ السلام الدولية ، لأنهم كانوا يستعملون نقاط ملاحظة خاصة بهم ، للإبلاغ إذا قام أحدُ الطرفين بانتهاك وقف إطلاق النار ، وما شابه ، وكان لدى القيادة شكٌ أنهم هم الذين أبلغوا الصهاينة بوجود قيادة كبيرة فى المنطقة . وفعلا أحضرنا أجهزة مماثلة للتى يعملون عليها ، وكانت بالنسبة لنا نوعية جديدة لم نرها من قبل ، ولكن عرفنا تالياً أنها مشابهة للمستخدمة لدى قواتنا الجوية ، وبدأنا المتابعة لشبكاتهم .

ومن الجدير بالذكر ، أن التعاون كان قائماً بيننا وبين الأشقاء في الأردن ، لأنهم قريبين من إيلات ، ومع الأشقاء في سوريا ، لأنهم قريبين من حيفا . فكانوا يضيفون لمعلوماتنا عن العدو . وإذا أفلت منا تردد معين لبحرية العدو مثلاً ، سألناهم عن القطعة التى غادرت ميناء كذا فى ساعة كذا ، فيخبروننا ، فنستطيع بتجميع المعلومات معاً ، إمساك الشبكة الهاربة .

ومن فضل الله علينا ، أن بعض أبطالنا ظلوا يعملون معي من قبل 1967 م ، حتى 1973 م . فتجمعت لدينا خبرات تراكمية وفيرة بحمد الله . وكان حملة ليسانس الآداب يأتون إلينا ضمن الخدمة الإلزامية أحياناً كجنود ، وأحيانا أخرى كضباط احتياط ، وعلى درجة عالية جداً من الكفاءة والجَلَد . فكنت أنا أتعب وأحتاج للراحة ولو ساعة أو نصف ساعة ، بينما كانوا هم لا يتعبون أبدا - بعون من الله بالتأكيد - ويستمرون في العمل بشكل متواصل . ورغم أنهم كانوا أسرع استيعاباً ، وأكثر كفاءة فى حصر الشبكات ، وعمل الإحصائيات لما يتابعونه ، إلا أن المجندين منهم كضباط احتياط ، كان يعملون معنا لعامين ، أما من يأتون منهم كجنود فيبقون معنا عاماً واحدً فقط - وفق نظام التجنيد - ثم يتركوننا عائدين إلى الحياة المدنية ، وقد رعتهم الدولة وفقها الله بعد الحرب ، فتم توظيفهم فى هيئة الإذاعة المصرية ، على كادر ضباط احتياط . ومازلت على اتصال بهم إلى الآن .

أما حملة المؤهلات المتوسطة ، فكنت أفرح بقدومهم أيضاً ، رغم أنهم ليسوا بنفس الجاهزية ، لأنهم يستمرون معنا عامين أيضاً .
  • حرب رمضان / أكتوبر :
في عام 1970 م أُعِيدَ تنظيم الكتيبة ، لتصبح "فوج استطلاع لاسلكى" ، ثم أُعيد تنظيم الفوج فى منتصف 1973 م ، بتقسيمه إلى مستويات ، أولها تكتيكي تعبوي ، يتعامل مع قيادات الفرق . والثانى استراتيجى ، يتعامل مع القيادة العامة في القاهرة . وأصبحت أنا وفق ذلك ، مسؤولاً عن المستوى التكتيكى بالكامل . ولكن بعد ثلاثة أشهر ، تم ابتعاثي للاتحاد السوفييتي .

ولم ألحظ قبل مغادرتي الوحدة ، أي تغيير يمكن أن يشير إلى احتمالية وقوع حرب . اللهم إلا أن زميلي / محـمد الحسينى رفع طلباً إلى وزير الحربية (الدفاع حالياً) وقتها ، المشير / أحمد اسماعيل رحمه الله ، فى يناير 1973 م ، للسماح له بالزواج من روسية - لأن الزواج من أجنبيات محظور على العسكريين - فاستدعاه المشير ، واجتهد فى إقناعه بتأجيل زواجه مدة عام ، ولم نجد ساعتها سبباً لطلب التأجيل . لكني استشعرت شيئاً في الأفق ، عندما صدرت إعادة تنظيم جديدة للفوج ، دون وجود اسمي في التشكيل أصلاً ، مع أنني كنت رقم 02 في التشكيل السابق ، مما يدل على أنه قد تقرر نقلي ، فاستفسرت من قائدي / فؤاد نصار ، فقال لى : "رُوح قابل مدير المخابرات ، وافهم منه السبب" . وكنت أنا قبلها بفترة قد تقدمت لمسابقة داخلية في القوات المسلحة ، لترشيح ثمانية أو تسعة ضباط كمساعدين جددلملحقينا العسكرين في بعثاتنا الديبلوماسية ، فتقدم للمسابقة أكثر من ألف ضابط من مختلف التخصصات . وكان الامتحان صعباً جداً ، فتلاشى أملي في الترشّح مع كثرة المتقدمين وصعوبة الامتحان ، ونسيت الأمر . ولكن مديرالمخابرات علم أنه تم اختياري ، فلذلك لم يدرج اسمي في التشكيل الجديد . وحين تم اعتماد الأسماء ، اتصل بي زميلي / اسماعيل شوقى من إدارة المخابرات ، ليخبرني أن مدير الإدارة يستدعيني للمقابلة .

كنت أنا حينها برتبة مقدم ، فتوجست من حذف اسمي ، ومن الاستدعاء بعدها مباشرة ، ولم يكن هنالك مَفَرُّ من التلبية ، فذهبت في بداية شهر سبتمبر . وكنت أعرف المدير ويعرفني ، لأني خدمت معه حين كان برتبة عقيد . وهو الذي أرسلني سابقاً إلى اليمن ، فرحب بى ، وبشرني بأن درجاتي جاءت ممتازة في جميع المواد ما عدا اللغة الإنجليزية . فوعدته أن أعمل على تقوية نفسي فيها فوراً من اليوم ، وحتى موعد السفر . ثم سافرت للعمل مساعداً للملحق العسكري المصري ، بالاتحاد السوفيتى ، قبل الحرب بعشرة أيام فقط .

ولم ألحظ شيئاً غير طبيعي بعد وصولى لموسكو ، وبدأت الحرب فجأة وأنا هناك . وكانت صدمة بالنسبة لى ، لأنى أنا من حدَّد مواقع مراكز التصنّت ، وأنا الذي اخترت الرجال هناك ودربتهم ، وكنت أزورهم شهريا وأمضي معهم بعض الوقت ، وأشجعهم ، بدءاً من بورسعيد مروراً بالسويس ، وحتى الغردقة ، ثم أتجه إلى قنا ، وأعود بالقطار . وكنت أصافح كل واحدٍ من رجالي ، وأستمع لمشاكلهم اليومية المعتادة ، مثل ما يخص الوجبات ، والوقود ، والحماية ، والمياه ، ومشاكل مع رئيس الاستطلاع بسبب تأخر وصول المعلومات . وكان لكل موقع مشاكله ، فتم تعيين مساعد لقائد الفوج ، لحصر ومتابعة تلك المشاكل أولاً بأول .

وأصبحت أفكر كل يوم في رجالي ، وكيف أداؤهم فى المعركة ، وكنت خائفاً على كتيبة الدفرسوار خصوصاً ، لأنها قريبة من خط النار ، ومعرّضة بشدة للضرب ، والأجهزة ضخمة يسهل اكتشافها . فكنا دوما بين نارين ، إما أن نقرّب مراكز التصنت ، لكيلومتر أو كيلومترين من العدو - للحصول على أفضل نتائج - أو تتعرض المراكز لخطر الاكتشاف والإصابة المباشرة ، بأبسط أسلحة لدى العدو . وعرفت فيما بعد كيف أن رحمة ربي واسعة ، فقد حدث أن قوات إسرائيلية تسربت إلى الأدبية ، بالقرب من السويس الباسلة في حادثة الثغرة ، ولكنهم حين مروا بجوار كتيبة الاستطلاع الإليكتروني هناك ، لم يكتشفوا وجودها بحمد الله .

طبعا كنت سعيداً جداً فى بداية الحرب ، لكن التوتر الذي كان لا يزال سائداً وقتها بين مصر والاتحاد السوفيتي - منذ أن تم استبعاد خبرائهم - ألقى بظلاله على سرعة استجابتهم لمطالبنا من الأسلحة ، فكانوا مؤيدين لمصر فى الحرب ، وسعداء بالنتائج المصرية ، لأنها داعمة بشكل ضمني لسمعة السلاح السوفييتي مقابل السلاح الغربي في الأسواق العالمية ، ونكاية في الولايات المتحدة ، عدوهم التقليدي . لكنهم ظلوا حذرين بعض الشيء مع ذلك ، في تلبية مطالبنا لتعويض خسائر المعركة ، وخاصة في نوعيات معينة ، كالطائرات ، إذ طلبوا ثمنها نقداً . فبادر رئيس الجزائر الشقيقة "هواري بومدين" رحمه الله بالحضور إلى موسكو ، ودفع ثمنها مقدماً ، فلبوا لنا طلباتنا .

كان السوفييت ملتفين حولنا فى السفارة ، لاستطلاع الأخبار أولاً بأول ، وشعرنا بشيء من القلق حين حدثت الثغرة . لكن ثقتنا في الله أولاً ، ثم في أنفسنا ثانيا ، كانت أقوى . لعلمنا بأن جيشنا قد بذل أقصى جهد بشري ممكن فى الاستعداد للحرب ، على المستويات والأفرع جميعاً ، وليس فرع الاستطلاع فقط . وكانت التدريبات شاقة ومتواصلة ، لرفع مستوى الأداء ، حتى أصبح أبطالنا ينجزون فى أيامٍ معدودة ، ما يستغرق حسب المعدلات العادية شهراً أو شهرين ، وكان المصريون مضغوطين على مستوى البلد ككل ، ولم يكن أحدُ يتخيل - في الشرق أو في الغرب - أن يتم بناء القوات المسلحة من جديد ، بنسبة لا تتجاوز 60 إلى 70 % فقط من قوة الأفراد الأصلية ، وإنجاز هذا العمل العسكرى الكبير والمعجز ، فى ست سنوات فقط . ولله الحمد والمنة ، ثم الشكر لشعب مصر الصامد البطل .

ينبغي التنويه أيضاً - في ذات السياق - أن حرب الاستنزاف كانت جزءاً أساسياً من استعدادتنا للإنجاز الرئيسي ، وأن الاتحاد السوفييتي شارك في مرحلة منها بالخبراء ، وأعتقد أن أطقم دعم أرضي ، وطيارين سوفييت قد شاركوا بطائراتهم في الاشتباكات مع طائرات العدو فى الفترة بين 1970 و 1971 م . لكنهم سحبوا طياريهم وأطقمهم ، بعد ذلك ، وتركوا لدينا المعدات . وربما حصل ذلك بضغط من الولايات المتحدة ، لأن الدول الكبرى - كما نعلم - بينها توازنات وحسابات مختلفة عن حسابات غيرها .

أدى حصول الثغرة على الأرض إلى ثغرة أخرى في حائط دفاعاتنا الجوية ، وبعد الدعم الفوري اللا محدود بأحدث ما في الترسانة الأمريكية لإسرائيل من أسلحة غير مسبوقة - كالقنابل التلفزيونية وغيرها - أصبح طيران العدو قادرا على الوصول إلى داخل الأراضي المصرية ، إما بالنفاذ عبر ثغرة الدفاع الجوي على خط الجبهة الشرقية ، أو بالالتفاف عبر دائرة خارج نطاق دفاعاتنا الجوية ، فوق البحر الأبيض المتوسط . وأظهر الدبلوماسيون السوفييت تخوَّفهم من انقطاع خطوط إمداد الجيش الثالث بسبب الثغرة ، لكننا كنا نطمئنهم أن طريق العين السخنة صالح لإمداد رجالنا رغم كونه يستغرق وقتاً أطول . والحمد لله أن الأمور تحسنت بسرعة ، وتجاوز الجيش الثالث تلك المشكلة ، مع وقف إطلاق النار ، واستطاع إنهاءها بنتائج طيبة ، وخرجنا من الحرب منتصرين ، بدليل أن إسرائيل قبلت انسحاب قواتها راغمة ، فلو كانت تشعر أنها فى مركز قوة ، ما كانت انسحبت أبداً ، وأعتقد أن ما استقر عليه رأي الرئيس السادات أغلبية كبار قادة الجيش ، من التشبث بالضفة الشرقية ، وعدم الانسحاب إلى الغرب أثناء الثغرة ، كانت نتائجه على الأرض في صالح مصر ، بحمد الله تعالى . مع العلم أنه كان يمكن إبادة قوات العدو في الثغرة بالكامل ، لكن المجتمع الدولى لم يكن ليقبل بمثل تلك الخسارة الفادحة ، والهزيمة النكراء لإسرائيل ، فاضطر الصهاينة لسحب قواتهم راغمين ، تلافيا لبديل أشد مرارة .

لما كنت شريكاً - وفق عملي الجديد - في المسؤولية عن مشترياتنا العسكرية من الاتحاد السوفييتي ، قبل الحرب ، فقد تعاملت أثناءها مع متطلبات ما يقرب من عشرين هيئة وفرع في قواتنا المسلحة ، فكنت الوسيط مع الجهات البائعة هناك في الفترة من 1973 إلى 1975 م .

وعدت بعد الحرب من الاتحاد السوفييتي إلى فرع الاستطلاع ، الذي كان قد أصبح تابعاً لـ "إدارة الحرب الإليكترونية" ، فبحثت عن وظيفه تلائم وضعي كـرقم 02 فى كتيبة الاستطلاع الالكترونى الرئيسية سابقاً ، ولكن وجدت الوظائف مشغولة ، إلا أن اسماعيل شوقي ، قائدي قبل سفري - وكان مرشحاً لرئاسة أكاديمية ناصر - قد تم تعيينه رئيساً لفرع تخطيط العمليات فى الإدارة بدلاً من ذلك ، وتعليق عمل الأكاديمية ، لحين توافر من يصلح لتولي قيادة الأكاديمية . فتطوع هو بإخبارهم عني ، وأنني قادر على تغطية المكان ، فتم تأجيل الأمر حتى عودتى من الاتحاد السوفييتي .

لكن حين عدت ، تم تعييني رئيساً لفرع تخطيط العمليات بإدارة الحرب الإلكترونية . وكان منصباً صعباً بالنسبة لضابط مثلي برتبة مقدم ، بينما رؤساء الأفرع كلهم وقتها عمداء . وكانوا يتعجبون أن أهم منصب فى الإدارة ، يأتى مقدم من خارجها ليتولاه . فكان العمل فى وسط أشواك ، ولكني بذلت جهداً كبيرا وفقني الله فيه للتغلب على ما واجهني من صعاب .

وامتدت خدمتي في إدارة الحرب الإلكترونية خمس سنوات ، توليت خلالها عدة مناصب ، منها مدير فرع الحرب الإلكترونية بالجيش الثانى في الاسماعيلية ، ومدير إدارة التدريب في إدارة الحرب الإلكترونية . وكان منصبي كرئيس لفرع تخطيط العمليات فى إدارة الحرب الإلكترونية هو أهم منصب فى الإدارة بعد المدير ثم رئيس الأركان ، وكنت أقوم بعرض خطط العمليات أمام المشير الجمسي رحمه الله شخصيا ، وأمام كل الصف الأول من قيادات الجيش . فكان ذلك شرفاً عظيماً لي بحمد الله ، ومفتاحاً للشهرة بين القيادات العليا كذلك .

وفي عام 1980 م انتقلت إلى الأكاديمية ، وحين تخرجت منها ، دخلت طريقاً آخر بعيداً عن الحرب الإلكترونية ، هو مركز الدراسات الاستراتيجية للقوات المسلحة . وكان به قسم للدراسات الاقتصادية ، يحتاج لضابط حاصل على دكتوراه فى الاقتصاد ، ليتولى قيادته . ولم يكن متوفراً - بالقوات المسلحه كلها - أى زميل حاصل على دكتوراه فى الاقتصاد سواي ، فـتوجهت للمركـز للحصول على الوظيفة ، وفى عام 1988م أصبحت مديراً لمركز الدراسات الاستراتيجية للقوات المسلحة .

أذكر من الأمور التي جرت دراستها في المركز خلال فترة عملي فيه : الأمن الغذائي ، والأمن المائي ، ومكافحة الإرهاب ، فضلا عن أمور التسليح طبعا ، وجميعها أمور لها من أبعاد متعددة تؤثر بلا شك على الأمن القومي . وتقاعدت في عام 1993 م .

وفي الختام ، أحب أن أتحدث إليك عزيزي القارئ ، وأبنائي الشباب خصوصاً ، أنني - بحمد الله - لا أشعر بالندم على شىء مما مضى من حياتي ، وأن أعمالى خلال فترة خدمتي ، كانت مشرفة وتضمنت ترقيات لأننى كنت أراعى الله تعالى في عملي ، وفي رجالي ، ولا اعتبار عندي للوسائط ( معرفة أو قرابة بعض الأفراد ، بشخصيات هامة أو مرموقة ) ، ومن ذلك أنه كانت هناك بعض الأماكن الخطيره ، مثل القنطرة غرب مثلاً ، فكنت أحيانا أرسل المجند من رجالي إليها ، فيستشهد في اليوم التالي ، فكنت أراعى المناوبة فيها بين رجالي جميعا دون تمييز لأحد منهم فيخدم كل فرد في مكانه ستة أشهر من مدته ، ثم أنقله إلى غيرها بالتناوب .

وأذكر أنني شعرت بضرورة منح علاوة لجنودي من حملة ليسانس اللغة العبرية ، وليسانس اللغة الإنجليزية ، بقيمة جنيه واحد تقريبا ، لكل منهم ، ولكن قائدنا العميد / شوقى كان رافضا باستمرار لذلك . ولما مل من إلحاحي ، نصحني بالتوجه إلى زميله يرتبة عميد أيضاً في هيئة التنظيم والإدارة ، وفعلا توجهت لمقابلته ، فرفض هو الآخر بفظاظة . ولأننا تعلمنا الاحترام فى الجيش ، وعدم رد الإساءة بمثلها ، فقد حاولت الإيضاح أنني لو لم أكن محتاجاً لزيادة رواتب جنودي ، ما كنت أثقلت عليه ، وأننا في حالة حرب ، فيمكن التجاوز البسيط للمصلحة العامة ، وأنه لا يجوز التفرقة بين فردين يقومان بنفس العمل ، لأن أحدهما يخدم كضابط احتياط والآخر يخدم كجندي فقط ، وهما على نفس المؤهل ، فيجب مراضاة الجميع ، لأن الجندي - فى المعركة - هو حياتها ، وروحها ، وعمود الحرب كلها ، وأن المبلغ الإجمالي - من وجهة نظري - بسيط لا يستحق . وتجاوب هو مع أسلوبي ، فهدّأ من أسلوبه في الحديث ، وشرح لى أن ذلك الأمر قد سبقت دراسته آنفاً ، وممنوع بقرار جمهوري .

ولكنني لم أيأس ، وكان المبلغ المطلوب عشرين إلى ثلاثين جنيها ، بعدد جنودي من حملة الليسانس شهريا ، فسعيت لصرفه من بند "مصروفات عامة" لكتيبة المخابرت الحربية ، وتم ذلك فعلاً ، بحمد الله .

وأود أن أخبر أبنائي من الشباب ، أن مصر - بعون الله - قادرة على تذليل الصعاب ، وإنجاز المستحيل . وأننا رأينا قبل ذلك ، ظروفاً مشابهة لظروفنا الآن ، لكننا كنا مخلصين في حب وطننا ، متفانين في خدمته ، ومنا من قضى سنين طويلة بأكملها - من أحلى فترات عمره - بعيدا عن أسرته ، في حرب اليمن مثلاً ، أو على الجبهة ، في التدريب على مهام المعركة المقبلة ، من أجل ذلك الوطن .

كما أود أن أخبر أبنائي الشباب أيضاً أن مشوار حصولي على الدكتوراه قد استغرق خمسة عشر عاماً ، منذ 1960 م ، إلى 1975 م ، وكانت معظم إقامتي خلالها في جبل "جنيفة" ، وكنت أنزل يومي الخميس والجمعة فقط من كل أسبوع ، ومشيت فى كل الظروف السيئة داخل القوات المسلحة ، من النكسة ، وظروف الاستعداد للحرب ، للحصول على تعليم بمستوى رفيع ، وتُوِّج ذلك بالدكتوراه ، ولم يكن لدي وقتٌ كافٍ للدراسة ، ولكن حُبى للعلم ، جعلني أتغلب على كل ما يمكن أن يشغلني عنهُ . ورغم أني متزوج ، وعندى أولاد بحمد الله ، إلا أنني كنت أقضي معظم وقتى فى الجيش ، ولو حصل عندي ساعة أو ساعتان من الفراغ ، كنت استفيد منهما في البحث عن كتاب قيِّم ، أو محاضرة فاتتنى ، لأستمع إليها . فجعلنا حبُّ الوطن ، نتجاوز كل الشواغل ، بل حتى متع الحياة ، ونمارس عملنا بِحُب ، ونسعد جداً عندما نحصل على معلومة قد ينفع الله بها الوطن ، ونتابع زملاءنا القائمين بعمل الأكمنة خلف خطوط العدو بسيناء - على اللاسلكي - كأننا معهم نحرسهم ، لإيمانننا أنهم هم من سيصنعون النصر ، ونشعر أن مسؤليتهم فى رقابنا .

في ندوة نظمتها كلية التربية بجامعة الإسكندرية ، وتشرفت بالحديث فيها عن الترفيه فى القوات المسلحة ، قلت إن الترفيه فى فترة حرب الاستنزاف ، لم يكن مشاهدة السينما ولا مباريات الكرة على التلفاز ، وإنما كان هو التنافس بين الجيشين الثانى والثالث ، في القيام بعمليات في قلب خطوط الصهاينة ، والعودة سالمين بأسير صهيوني أو أكثر غير مصابين . فكان الترفيه بالنسبة لنا في حقيقته ، تنافساً على الموت . وكان لى في أكثر من مناسبة ، شرف الجلوس مع إخوتي وأبنائي من الضباط والجنود لأخبرهم أنهم فخر لمصر ، وأقول لهم : "أنتم من حفظ الله بكم الوطن ، وأنتم من تحملون راية بناء مصر الحديثة الآن" ، ويجب على الجميع - مدنيين وعسكريين - أن يعلموا هذا ، وهو قدرمكتوب على خير أجناد الأرض ، وهم أهلٌ له بإذن الله .

ويؤسفني جداً أنني شاهدت فى إحدى المرات ، برنامجاً في التلفاز يولول مقدمه ، كأنه في كارثة - لا قدّر الله - أن السوبر ماركت ( البقالة ) يسمح بكيلوجرامين فقط من السكر لكل عميل ، وفي وقت مقارب لذلك كنت حاضراً في حفل تكريم بجامعة عين شمس ، فرأيت وسمعت رئيس الجامعة وقتها واقفاً يقول : "كنت أثناء حرب الاستنزاف أقف في طابور طويل لشراء ( دجاجة ) لأسرتي" ، رأيته يقول ذلك وهو رئيس جامعة . فأين من يختلقون أزمة بسبب مشكلة مؤقتة في السكر من مثل هؤلاء الرجال ؟ .

لقد كان هنالك عجزٌ فى الأرز ، والسكر ، واللحم ، وكافة المواد التموينية ، طوال فترة الاستنزاف ، وكنا مع ذلك نعيش سعداء . ولم يشترِ أحدٌ من الناس - حسب علمي - طوال فترة حرب رمضان / أكتوبر 73 أي مواد تموينية بهدف التخزين . وأعرف سائقَ أجرةٍ ، أَوْصَل ضابطاً من العباسية إلى الهايكستب ، ورفض أن يتقاضى أجرته عن ذلك ، لأن إحساسه بأهمية نقل ضابط أو جندي لمكان عمله ، ومساعدته في أداء واجبه وقت الحرب ، كان أهم عنده من النقود . وأتذكر جيداً أنه لم يتم تسجيل أى جرائم فى أى مكان بمصر طوال أيام الحرب . لكن الإعلامي المُغرض يوحي للناس بأن القيامة قد قامت من أجل كيلو سكر إضافي . وفي الحقيقة فإنني لا أعرف كيف أصفُ أمثالَ هؤلاء ، وأشعر بالأسى نحو تفريطهم تجاه وطنهم ، وأقول للجميع : "اتقوا الله فى جيشكم ، وفي شرطتكم ، فإنهم يسهرون ويُضحّون بأرواحهم من أجل أمنكم وسلامتكم ، وهي نعمة - لو تعلمون - من أجَلّ النعم" .

ومن وجهة نظري ، فإنني إذا كنت وطنياً فعلاً ، فلا يمكن ان أقول للجيش أو للشرطة - ونحن فى قلب المعركة - إنه ثَمّ تقصيرٌ أو أخطاء لديهم ، لأن ضابط الجيش أو الشرطة بالتأكيد ، لا يخرج من بيته راغباً في ارتكابِ خطأٍ يودِي بحياته . فكل إنسان يحب بالتأكيد أن يبقى حياً ، ليتمتع بأسرته ويشاهد أولاده وهم يكْـبُرون بين يديه . فأتمنى من الناس أن يحبوا مصرَ فعلياُ قدر استطاعتهم ، وأن يقفوا بجانب جيشهم وشرطتهم ، الذين يُسْتَشهَد منهم في كل يومٍ ، فردٌ أو أفرادٌ جدد ، وهم يؤدون واجبهم . وكل بطلٍ منهم يخرج من بيتِه صباحاً أو مساءً ، وهو لا يعرف هل سيعود إليه ، أم لا ؟.

وأعود إلى ذكرياتي قبل حرب رمضان أكتوبر المجيدة ، حين تولى المشير / الجمسي رحمه الله ، رئاسة هيئة العمليات بالقوات المسلحة ، وهو يعلم بالتأكيد ، أن الجيش غير جاهز بشكلٍ كافٍ للحرب . فقام أولاً مع ضباطه في هيئة العمليات ، بوضع قائمة لكافة المشكلات المطلوب حلها ، كي تتمكن قواتنا المسلحة من عبور قناه السويس ، ومواصلة القتال بنجاح حتى النصر بإذن الله تعالى . فدرسوا كل مشكلة على حدةٍ ، بدءاً من طريقة الهجوم ، والوقت المناسب لذلك ، وكيفية التعاون بين الجيش المصرى والجيش السورى ، وعمل سيناريوهات أساسية وبديلة لحل كل مشكلة . ثم قاموا بتجميع الحلول في سيناريوهات شاملة ، أساسية وبديلة للحرب ، فكان مجهوداً كبيراً يفوق الوصف . لأن الاستعداد لم يبدأ من الصفر فقط ، وإنما من تحت الصفر .

وإنه لإعجاز أن يتم ذلك فى ست سنوات فقط ، للدخول بتلك الحرب الكبيرة ذات النتائج العظيمة . وليس لذلك تفسيرٌ ، إلا أن الله سبحانه وتعالى كان معنا ، ثم الخطط الفذّة ، التي رُسمت ، والجهود الرهيبة التي بُذلت لرفع الروح المعنوية ، وخداع العدو ، في نفس الوقت الذي تجري فيه الاستعدادات والتدريبات على أشدها ، وبكامل الطاقة ، للحرب ، وهو ما يحتاج لجلسات مستقلة لشرحه في الحقيقة .

* * *

IMG-20170817-WA0014.jpg


تم التسجيل بمقر المجموعة 73 مؤرخين في القاهرة

حضر التسجيل : أستاذ / أحمد زايد .

: أستاذ / مصطفى نقراشى .

: أستاذ / مصطفى طولان .

: أستاذ / حسن الحلو .

قام بالتفريغ :

مراجعة لغوية : مهندس / عبدالناصر محـمد المرابط .



المصدر مجموعة 73 مؤرخين