مزاجك اليوم
مذكرات البطل
اللواء / محمد جمال الدين مظلوم
سلاح الحرب الإلكترونية
ولدت في 23/7/1939 م بالقاهرة ، في أسرة متوسطة الحال ، وكان والدي رحمه الله صيدلياً ، وتشمل عائلتي العديد من العسكريين ، وكانوا جميعاً أكبر منى سنا بفارق بسيط . وكنت أحترمهم ، وأقـدرهـم ، وأعتبرهم مثلاً أعلى لي ، لما لمسته فيهم من حـب الوطن والإخلاص في خدمته فتشربت منهم الوطنية . ورأيت فيهم الانضباط ، والرجولة ، والأخلاق الرفيعة ، فملأ نفسي الشغفُ بالحياة العسكرية . وكنتأشاهدالاستعراضات العسكرية لجيشنا في التلفاز ، فـتعجـبني مِشية الضباط والجـنود وهم يتحركون معاً في التشكيلات بالخطوة العسكرية ، كأنهم رجل واحد ، وأرى ذلك عنواناً للرجولة والانضباط والالتزام ، فازداد تطلعي لأن أكون واحداً من أفراد المؤسسة العسكرية . وحين أنهيت دراستى الثانوية - بمجموع لا بأس به - يكفي لدخول إحدى الكليات المرموقة فى ذلك الوقت ، فضلت بلا تردد أن أتقدم للكلية الحربية .
- ·بدء علاقتي مع الحرب :
أذكـر أن أول حـرب عاصرتها ووعـيتها ، رغـم حـداثة سني وقـتها ، كانت هي الحـرب العـالمية الثانية ، فعشنا أيامها نُهـرَع إلى الملاجىء كل حين ، عند سماع صافرات الإنذار من الغارات ، وكنت أشعـر مع الناس بالارتياع والقلق الذَّيْن تُحـدِثهـما الحـروب فى نفوس المدنيين البسطاء ، من تأثير الاضطرار للنزول إلى الملاجىء خلال ساعات الليل ، بينما أصوات الانفجارات ، وأزيز الطائرات يشقان السماء فوقنا .
ومع أنني كنت لا أزال طفلاً صغـيراً ناشئاً ، حين عايشت تلك الظـروف العـصيبة ، إلا أنها كانت مصدر إلهام وقـوة نفـسية هائلة لشخصيتي فيما بعد ، لأن حياتنا اليومية المشتملة وقتها باستمرار ، على مشاق اضطرارية نتيجة الحرب ، علمتنا أن نتعايش مع الصعاب ، شئنا أم أبينا ، وأن نجاهد لنتغلب عليها .
وكانت الحرب أيضا سبباً لأن أدرك - منذ نعومة أظفاري - أهمية وجود جيش قوي للوطن ، يحرسه ويذود عن حياضه .
ومع أنني كنت لا أزال طفلاً صغـيراً ناشئاً ، حين عايشت تلك الظـروف العـصيبة ، إلا أنها كانت مصدر إلهام وقـوة نفـسية هائلة لشخصيتي فيما بعد ، لأن حياتنا اليومية المشتملة وقتها باستمرار ، على مشاق اضطرارية نتيجة الحرب ، علمتنا أن نتعايش مع الصعاب ، شئنا أم أبينا ، وأن نجاهد لنتغلب عليها .
وكانت الحرب أيضا سبباً لأن أدرك - منذ نعومة أظفاري - أهمية وجود جيش قوي للوطن ، يحرسه ويذود عن حياضه .
- ·حرب فلسطين 1948 م :
كان عمري تسعة أعوام حين قامت حرب 1948 م ، ولكني لا أتذكر من أحداثها إلا القليل جداً ، لأنها كانت بعيدة عنّا مكانياً . فلا تتجاوز ذكرياتي عنها بعض البرامج الإذاعية ، والصور الفـوتوغرافية المنشورة وقتها في الصحف والمجلات ، لجحافل العدوانوهم يجرون أذيال خيبتهم منسحبين في نهاية الحرب .
وكانت تلك الأحداث ، كافية لتُبقي شعورنا يقظاً ومتأججاً ، بوجود قضايا مصيرية مشتركة مع أمتنا العـربية - قد تلزمنا بالمشاركة فى حـروب خارج حدود الوطن . خصوصاً بعد المؤامرات الدولية لزرع إسرائيل داخل أمتنا ، كدولة لقيطة غاصبة ، وعنصر دخيل محتل ، صار حقيقة واقعة - بعد اعتراف أقطاب المجتمع الدولي بها - قاصدين أن تبقى كمصدر توتر مستمر في قلب الأمة العربية والإسلامية ، لاستنزاف قواها ، وإضعافها تجاه أطماعهم في الاستحواذ على خيراتها .
وكانت تلك الأحداث ، كافية لتُبقي شعورنا يقظاً ومتأججاً ، بوجود قضايا مصيرية مشتركة مع أمتنا العـربية - قد تلزمنا بالمشاركة فى حـروب خارج حدود الوطن . خصوصاً بعد المؤامرات الدولية لزرع إسرائيل داخل أمتنا ، كدولة لقيطة غاصبة ، وعنصر دخيل محتل ، صار حقيقة واقعة - بعد اعتراف أقطاب المجتمع الدولي بها - قاصدين أن تبقى كمصدر توتر مستمر في قلب الأمة العربية والإسلامية ، لاستنزاف قواها ، وإضعافها تجاه أطماعهم في الاستحواذ على خيراتها .
- ·ثورة 23 يوليو 1952 م :
لم أشعر بفارق كبير في حياتنا عند قيام ثورة 23 يوليو 1952 م ، لأنني لم أكن من أيٍ من الطبقتين ، الإقطاعية والأرستقراطية ، ولا مخالطاً لأي منهما . ولكني شعرت حين قامت الثورة ، بحماس الناس ، وتأييدهم الجارف لها ، من شغفهم بالالتفاف حـول الراديو ( المذياع ) - في المقاهي والمنتديات - لمتابعة أخبارها . وكان لتلك الأخبار الجميلة ، أكبر الأثر فى إحداث تغييرات جوهرية ملموسة على شخصيات الناس ، نحو الأفضل . وانتعشت الرغبة لدى الجميع في خدمة الوطن . وأصبحت كل أسرة مصرية تنظر لكـل ضابط وجندي في الجيش ، على أنه واحدٌ منها ، وأخٌ لأبنائها ، له كل إعزاز وتقدير .
وكان والدى رحمه الله ، في تلك الأيام الخوالي ، يقضى موسم الإجازة الصيفية في مدينة رأس البر ، حين يبدأ المستشفى الحكومي هناك في العـمل بكامل طاقته ، لخـدمة المصطافـين . فكنا نقضى إجازتنا الصيفية مع والدي هناك كل سنة .
وكان والدى رحمه الله ، في تلك الأيام الخوالي ، يقضى موسم الإجازة الصيفية في مدينة رأس البر ، حين يبدأ المستشفى الحكومي هناك في العـمل بكامل طاقته ، لخـدمة المصطافـين . فكنا نقضى إجازتنا الصيفية مع والدي هناك كل سنة .
- ·ســنوات الدراســة :
كان لدراستي - في المرحلة الثانوية خصوصا - دوراً كبيراً أيضاً ، ومؤثراً على شخصيتي . وكنت أشعر أيامها ، أن المدرسين ، يعتبرون الطلبة أبناءً لهم . وأذكـر عندما أصبحت طالباً في الفرقة الأولى بالكلية الحربية ، أن علاقة الصداقة بيني وبين معلّمي "أستاذ / نحاّس" مدرّس الكيمياء ، استمرت وطيدة ، رغم البعد المكاني ، والفارق فى العمر والمقام ، حتى بعد أن تخرجت من الكلية ضابطاً . و لا أظن أن ذلك الجيل من المعلمين ، يمكن تعويضه الآن للأسف .
وقد بلغ من إخلاصهم في أداء رسالتهم ، أنهم كانو يمرون علينا في بيوتنا ، بعد صلاة المغرب ، ليوزعوا علينا أوراقاً قد لخصوا فيها الدروس بأيديهم ، ويراجعـوها معـنا دون أى مقابل . وكان الواحد منهم إذا شرح لنا درساً صعباً في إحدى حصص المدرسة ، يحدد لنا موعداً فى السابعة مساء اليوم التالى مثلاً بالمدرسة . فإذا وصلنا في الموعد وجدناه قد وصل قبلنا ، ليشرح لنا الدرس مرة أخرى مجاناً . فكان الواحد منا يشعر أن أستاذه هو أخوه أو أبوه ، وكانوا هم السبب الرئيسي فى حبنا للعلم . ومهما حكيت لك عزيزي القارئ ، فلا أستطيع الوفاء بفضلهم عليّ ، رحمهم الله جميعاً .
أذكـر أيضاً أن مادة "التربية العـسكـرية" - وكانت وقتها بمسمّى "الفتوّة" - كانت اختيارية ، مثل مادة "الكَـشّافة" ، وكان لدينا أوقات فراغ تسمح بالانضمام إليها . فكانت من العناصر الرئيسة في العـملية التعـليمية ، لما تُضفيه على الملتحقين بها من أخـلاقيات المروءة ، والالتـزام . وكـنّا نشعر أن ضباطنا أيضاً يعـتبروننا أبناءً لهم ، حتى لو أن طالباً واجه مشكلة في المدرسة ، لسارعوا جميعا إلى التعاون في حـلّها ، بمبادرة ذاتية منهم .
وكانوا ينظمون لنا المعـسكرات الترفيهية في حي "أبى قير" بالإسكندرية كل صيف ، ويوفرون لنا الحافلات ، لنتنزه بين معالم المدينة فى الأمسيات ، ونرجع في نهاية اليوم سعداء . ولطالما تدّخل ضابط الفتوة ، لحل مشاكل بعض زملائنا مع المدرسين ، قبل أن تصل الأمور لإدارة المدرسة . مما حَبَّب إلينا حياة العسكرية ، وزادنا تعلقا بالوطن ، وجعلنا نشعر أننا بين أهلنا ، وأزكى في نفوسنا الوازع ، لمراعاة الأدب عند التعامل مع أساتذتنا ، سواءً كانوا مدنيين أو عسكريين .
وأذكر من أولئك الضباط الأعزاء : سيادة النقيب / عـفيفى رحمه الله ، وكان أحيانا ما يأتي إلى المدرسة بالزي المدني ، وكنا نعتبره أباً ثانياً لنا ، وكان يحضر معنا طابور الصباح يومياً ، ويعرفنا واحداً واحداً بأسمائنا ، ويسألنا عن أخبارنا ، فكان الإقبال على الالتحاق بالفتوّة شديداً بين الطلاب ، وكان الجميع ينظرون إلى طلبة الفتوة ، على أنهم أفضل من غيرهم . وانعكس ذلك إيجابياً علينا ، من تنامي صفات الرجولة ، والوطنية لدينا ، فضلاً عن ارتفاع مستوى اللياقة البدنية ، ونضوج الشخصية . ولاحظ ذوونا ذلك علينا بفخر واعتزاز .
* * * * *
وقد بلغ من إخلاصهم في أداء رسالتهم ، أنهم كانو يمرون علينا في بيوتنا ، بعد صلاة المغرب ، ليوزعوا علينا أوراقاً قد لخصوا فيها الدروس بأيديهم ، ويراجعـوها معـنا دون أى مقابل . وكان الواحد منهم إذا شرح لنا درساً صعباً في إحدى حصص المدرسة ، يحدد لنا موعداً فى السابعة مساء اليوم التالى مثلاً بالمدرسة . فإذا وصلنا في الموعد وجدناه قد وصل قبلنا ، ليشرح لنا الدرس مرة أخرى مجاناً . فكان الواحد منا يشعر أن أستاذه هو أخوه أو أبوه ، وكانوا هم السبب الرئيسي فى حبنا للعلم . ومهما حكيت لك عزيزي القارئ ، فلا أستطيع الوفاء بفضلهم عليّ ، رحمهم الله جميعاً .
أذكـر أيضاً أن مادة "التربية العـسكـرية" - وكانت وقتها بمسمّى "الفتوّة" - كانت اختيارية ، مثل مادة "الكَـشّافة" ، وكان لدينا أوقات فراغ تسمح بالانضمام إليها . فكانت من العناصر الرئيسة في العـملية التعـليمية ، لما تُضفيه على الملتحقين بها من أخـلاقيات المروءة ، والالتـزام . وكـنّا نشعر أن ضباطنا أيضاً يعـتبروننا أبناءً لهم ، حتى لو أن طالباً واجه مشكلة في المدرسة ، لسارعوا جميعا إلى التعاون في حـلّها ، بمبادرة ذاتية منهم .
وكانوا ينظمون لنا المعـسكرات الترفيهية في حي "أبى قير" بالإسكندرية كل صيف ، ويوفرون لنا الحافلات ، لنتنزه بين معالم المدينة فى الأمسيات ، ونرجع في نهاية اليوم سعداء . ولطالما تدّخل ضابط الفتوة ، لحل مشاكل بعض زملائنا مع المدرسين ، قبل أن تصل الأمور لإدارة المدرسة . مما حَبَّب إلينا حياة العسكرية ، وزادنا تعلقا بالوطن ، وجعلنا نشعر أننا بين أهلنا ، وأزكى في نفوسنا الوازع ، لمراعاة الأدب عند التعامل مع أساتذتنا ، سواءً كانوا مدنيين أو عسكريين .
وأذكر من أولئك الضباط الأعزاء : سيادة النقيب / عـفيفى رحمه الله ، وكان أحيانا ما يأتي إلى المدرسة بالزي المدني ، وكنا نعتبره أباً ثانياً لنا ، وكان يحضر معنا طابور الصباح يومياً ، ويعرفنا واحداً واحداً بأسمائنا ، ويسألنا عن أخبارنا ، فكان الإقبال على الالتحاق بالفتوّة شديداً بين الطلاب ، وكان الجميع ينظرون إلى طلبة الفتوة ، على أنهم أفضل من غيرهم . وانعكس ذلك إيجابياً علينا ، من تنامي صفات الرجولة ، والوطنية لدينا ، فضلاً عن ارتفاع مستوى اللياقة البدنية ، ونضوج الشخصية . ولاحظ ذوونا ذلك علينا بفخر واعتزاز .
* * * * *
- ·الكلية الحربية :
التحقت بالكلية الحربية عام 1956 م ، وكان عمرى وقتها سـبعة عـشر عاماً فقط . وكـنت أسمع قبل التحاقي أن أولاد الباشوات ( جمع باشا ) ، وأصحاب الأطيان ( الإقطاعيين - حائزي الأراضي الزراعية الشاسعة ) هم فـقط من يدخلونها . ولم أكن أنا من أيّ منهما ، ولكن كانت صحـتى جيدة بحمد الله ، ووظيفة والدي محترمة . وربما ساعد وجود أقارب لى في الجيش على قبول أوراقى بحمد الله ، فـتـشرفت بالانضمام لصفوف القوات المسلحة ، وسأظل أتشرف بذلك ما حييت ، بإذن الله .
كانت الدراسة في الكلية صعبة من وجهة نظري ، لأن الطالب يبذل فيها مجهوداً بدنياً قاسياً ، بينما وقت المذاكرة محدود . كما أن حياة الطالب في الكلية محددة بنمط معيـن ، لم تسعفني سني الصغيرة وقتها ، على التأقلم معه بسهولة . ولكنى حصلت مع ذلك على درجات التفوق فى الفرقتين الأولى ، والثانية . مما أكسبني رتبة أعلى من أقراني في الكلية في الفرقة الثالثة ، وأهلني لإحراز المركز السادس على دفعتي في الفرقة النهائية .
ومع ذلك فلم تَخلُ سنين دراستي في الكلية من تجارب مؤلمة . فقد كان لواحد من زملائي الأحدث مني ، أقارب ذووا مناصب مهمة في الدولة ، وكانت رتبتى أعلى منه ، فتوقع هو أن أُميَّزه عن باقي زملائه لذلك السبب ، ولكنني كنت معروفاً عند الجميع بالجدية ، وتنفيـذ التعـليمات دون محاباة لأحد . فلم يعجبه ذلك ، وأظـن أنه شكاني لأقاربه ، فظهرت نتيجتي في الفرقة الثانية بالرسوب ، لذلك السبب .
وكانت محنةً قاسيةً ، ولكن زملائي كانوا جميعاً يعرفون أنني قد ظُلِمت ، فتعاونوا لمساعدتي فى الفرقة النهائية . فلم أتأثر بذلك التأخير . كما أن عمري وقتها كان أقل من 19 سنة ،. وشاء الله أن يتم تخريج طلبة الفرقة النهائية في ذلك العام مبكرين ، للمشاركة في حرب 1956 م ، فتم تقديم الدفعات الثلاثة التالية لهم ، لِسَدّ الفراغ ، وكان نتيجة ذلك أن دفعتنا تجاوزت الفرقتين الأولى والثانية كلتيهما ، في ستة أشهر فقط .
وكان سلاح الإشارة وقتها سلاحاً جديداً وصعباً ، فكان مكتب تنسيق الكلّية يختار المحبين للعلم ، والمتفوقين من الطلبة - في الفرقة النهائية - لقسم الإشارة ، فشاء الله أن أكون ممن تم اختيارهم .
وأذكر كذلك في ذات السياق ، أن الدراسة كانت - فى ذلك الوقت - خالية من أي تعـريف للطالب بخصائص عدوه ، وإنما كان التركـيز على فهم واستيعاب العـلوم العـسـكـرية البحتة ، كمهارات التعامل مع أنواع الأسلحة والمتفجرات ، وهندسة الميدان ( حسن استخدام طبيعة الأرض ) ، وفنون القتال والمناورة ، وأساليب القيادة والسيطرة .. إلخ ، أكثر من تركيزها على تعريفنا بعدونا الرئيسي ، وهو كيان الاحتلال الصهيوني ، ولا شك .
وظل هذا الأمر يشغل تفكيري ، حتى يسَّر الله لي أن ألتحق بمعهد الدراسات العربية العليا ، التابع لجامعة الدول العربية ، بعـد التخرج . فحصلت مـنه على دبلوم الدراسات العليا في الشأن الفلسطيني ، ثم حصلت على شهادة الماجستير فى شئون فلسطيـن السياسية ، ثم الماجستير الثانية ، ثم الدكتوراه فى الاقتصاد الإسرائيلى . فكنت - بعد ذلك - مـن القلائل الذين تحدثوا في مصر عبر وسائل الإعلام ، عن اسرائيل واقـتصادها . ونفعني الله بتلك الدراسة فى عملي بالحـرب الإلكـترونية ، حيث تساعدنا المعلومات المتوفرة لدينا مسبقاً عن العـدو ، في تحليل المعلومات الغزيرة التي تتوفر لدينا من التصنت ، وسرعة استخلاص النتائج . وقد وظفت هوايتى فى القراءة والدراسة تالياً ، لنفس الغرض .
كانت الدراسة في الكلية صعبة من وجهة نظري ، لأن الطالب يبذل فيها مجهوداً بدنياً قاسياً ، بينما وقت المذاكرة محدود . كما أن حياة الطالب في الكلية محددة بنمط معيـن ، لم تسعفني سني الصغيرة وقتها ، على التأقلم معه بسهولة . ولكنى حصلت مع ذلك على درجات التفوق فى الفرقتين الأولى ، والثانية . مما أكسبني رتبة أعلى من أقراني في الكلية في الفرقة الثالثة ، وأهلني لإحراز المركز السادس على دفعتي في الفرقة النهائية .
ومع ذلك فلم تَخلُ سنين دراستي في الكلية من تجارب مؤلمة . فقد كان لواحد من زملائي الأحدث مني ، أقارب ذووا مناصب مهمة في الدولة ، وكانت رتبتى أعلى منه ، فتوقع هو أن أُميَّزه عن باقي زملائه لذلك السبب ، ولكنني كنت معروفاً عند الجميع بالجدية ، وتنفيـذ التعـليمات دون محاباة لأحد . فلم يعجبه ذلك ، وأظـن أنه شكاني لأقاربه ، فظهرت نتيجتي في الفرقة الثانية بالرسوب ، لذلك السبب .
وكانت محنةً قاسيةً ، ولكن زملائي كانوا جميعاً يعرفون أنني قد ظُلِمت ، فتعاونوا لمساعدتي فى الفرقة النهائية . فلم أتأثر بذلك التأخير . كما أن عمري وقتها كان أقل من 19 سنة ،. وشاء الله أن يتم تخريج طلبة الفرقة النهائية في ذلك العام مبكرين ، للمشاركة في حرب 1956 م ، فتم تقديم الدفعات الثلاثة التالية لهم ، لِسَدّ الفراغ ، وكان نتيجة ذلك أن دفعتنا تجاوزت الفرقتين الأولى والثانية كلتيهما ، في ستة أشهر فقط .
وكان سلاح الإشارة وقتها سلاحاً جديداً وصعباً ، فكان مكتب تنسيق الكلّية يختار المحبين للعلم ، والمتفوقين من الطلبة - في الفرقة النهائية - لقسم الإشارة ، فشاء الله أن أكون ممن تم اختيارهم .
وأذكر كذلك في ذات السياق ، أن الدراسة كانت - فى ذلك الوقت - خالية من أي تعـريف للطالب بخصائص عدوه ، وإنما كان التركـيز على فهم واستيعاب العـلوم العـسـكـرية البحتة ، كمهارات التعامل مع أنواع الأسلحة والمتفجرات ، وهندسة الميدان ( حسن استخدام طبيعة الأرض ) ، وفنون القتال والمناورة ، وأساليب القيادة والسيطرة .. إلخ ، أكثر من تركيزها على تعريفنا بعدونا الرئيسي ، وهو كيان الاحتلال الصهيوني ، ولا شك .
وظل هذا الأمر يشغل تفكيري ، حتى يسَّر الله لي أن ألتحق بمعهد الدراسات العربية العليا ، التابع لجامعة الدول العربية ، بعـد التخرج . فحصلت مـنه على دبلوم الدراسات العليا في الشأن الفلسطيني ، ثم حصلت على شهادة الماجستير فى شئون فلسطيـن السياسية ، ثم الماجستير الثانية ، ثم الدكتوراه فى الاقتصاد الإسرائيلى . فكنت - بعد ذلك - مـن القلائل الذين تحدثوا في مصر عبر وسائل الإعلام ، عن اسرائيل واقـتصادها . ونفعني الله بتلك الدراسة فى عملي بالحـرب الإلكـترونية ، حيث تساعدنا المعلومات المتوفرة لدينا مسبقاً عن العـدو ، في تحليل المعلومات الغزيرة التي تتوفر لدينا من التصنت ، وسرعة استخلاص النتائج . وقد وظفت هوايتى فى القراءة والدراسة تالياً ، لنفس الغرض .
- ·حرب 1956 م :
حين حصل العدوان الثلاثي تم قصف كليّتنا ، من الطيران المعادي ، أول أيام الحرب ، وقضينا بعد ذلك ليلتين في الكلية ، قبل أن يتم ترحيلنا إلى ثكنات المعادي ، فتعرضنا للقصف هناك أيضاً . فتوجهنا إلى الجيزة ، لننتقل منها بالقطار إلى أسيوط ، ثم سافرنا بالطائرة من مطار أسيوط إلى مطار الخرطوم في السودان .
وتخرجت ضمن الدفعة رقم 38 عام 1958 م ، وحضر وزير الحربية حفل التخرج . وكانت إرهاصات الوحـدة مع الشقيقة سـوريا قد بدأت في الظهور - قبل تخرجنا بعدة أشهر - فزارنا قائد الجيش السورى أثناء مشاركته في مباحثات الوحدة ، وعملنا عرضاً عسكرياً أمامه في الكلية .
توجهت بعد التخرج ، إلى معهد الإشارة بحي "روكسي" في مصر الجديدة . حيث كان النظام وقتها ، أن يحصل الضابط فور تخرجه ، على دورة تخصصية في السلاح الذى تم توزيعه عليه ، تسمى "الدورة الأساسية" . فأتممتها بنجاح فى عام 1959 م . ثم تغيرت الأمور بعد ذلك ، فأصبح الطلبة يقضون في الكلية أربعة أعوام بدلا من عامين ، ويتلقون الدورة الأساسية ، كفرقة نهائية قبل التخرج .
وتخرجت ضمن الدفعة رقم 38 عام 1958 م ، وحضر وزير الحربية حفل التخرج . وكانت إرهاصات الوحـدة مع الشقيقة سـوريا قد بدأت في الظهور - قبل تخرجنا بعدة أشهر - فزارنا قائد الجيش السورى أثناء مشاركته في مباحثات الوحدة ، وعملنا عرضاً عسكرياً أمامه في الكلية .
توجهت بعد التخرج ، إلى معهد الإشارة بحي "روكسي" في مصر الجديدة . حيث كان النظام وقتها ، أن يحصل الضابط فور تخرجه ، على دورة تخصصية في السلاح الذى تم توزيعه عليه ، تسمى "الدورة الأساسية" . فأتممتها بنجاح فى عام 1959 م . ثم تغيرت الأمور بعد ذلك ، فأصبح الطلبة يقضون في الكلية أربعة أعوام بدلا من عامين ، ويتلقون الدورة الأساسية ، كفرقة نهائية قبل التخرج .
- ·سلاح الإشارة :
رغم أن سلاح الإشارة هو المسؤول عـن الاتصال بين كامل عناصر وفئات القوات المسلحة ، وهو المسؤول بالتالي عن القيادة والسيطرة - أي أنه عصب المعركة - إلا أنه لا يأخذ حقه من الشهرة ، كباقي الأسلحة في العادة . ويكفي لتتخيل أهمية سلاح الإشارة عزيزي القارئ ، أن تعرف أن دور سلاح الحرب الإلكترونية الرئيسي في المعركة ، أن يحاول إعاقة عـمل سلاح الإشارة للعـدو ، أو تعـطيله عـن العمل بالكامل ، إن أمكـن . ونستخدم في ذلك أجهزة إليكترونية معـقـدة ، ومتعـددة الاستخدامات . مما يحوجنا للتنسيق بعـمقٍ وقوة ، مع زملائنا أبطال سلاح الإشارة ، بحيث أن عملنا ، لا يؤثر سلباً - ولا بأدنى درجة - على استقرار وتدفق منظومة اتصالات قواتنا أثناء المعارك . وقد كان لسلاح الإشارة دوراً كبيرا - أثناء حرب رمضان / أكتوبر 1973 م المجيدة - في ذلك ، رغم صعوبة الظروف ، وضعف الإمكانيانات ، واستمر الاتصال بين أفرع قواتنا المسلحة ، قوياً ومستقرا ، بما مكنّ الأفرع جميعها ، من تحقيق مهامها بحمد الله تعالى .
جاء توزيعي بعد التخرج ، على كتيبة الإشارة بالفرقة الرابعة المدرعة ، المتركزة بمنطقة "الهايكستب" في محافظة القاهرة ، وكان قائدها وقتها اللواء / على جمال ، من كبار قادة القوات المسلحة . وفى العام التالي مباشرة - 1960 م - تحولت مصر إلى شراء الأسلحة من الاتحاد السوفيتى ، عوضاً عن السوق الغربى ، تلافياً للصعوبات والعراقيل التي وضعها في طريقها الغرب ، فانهمكنا - نتيجة لذلك - في تغيير أسلوب عمل القوات المسلحة بالكامل من الأسلوب الغربى إلى الشرقى .
وكان قادتُنا متميزين بحمد الله ، فجعلوا التدريب على التغيير بين الأسلوبين ، يومياً ، وقسموا اليوم إلى نصفين ، ينتهى أولهما 2:30 / 3:00 عصراً ، وينتهي الآخر 6:00 مساءً . ثم مددّوا النصف الأول إلى الساعة 6:00 مساء ، والثاني إلى 11:00 مساء . فكـنا - فعلياً - نبيت فى الكتيبة لصباح اليوم التالى ، وتحولنا إلى شبه مقيمين فيها ، مما رفع درجة استيعابنا لعملنا ، بالأسلوبين كليهما ، إلى أقصى درجة ، بسرعة .
وبذلنا جهودا مضنية في التدريب على المعـدات الجـديدة الواردة تباعاً من الاتحاد السوفييتي ، بأساليب ومبادىء عمل جديدة علينا ، فاستوعبناها كاملة ، بأسرع ما تطيقه قدرة البشر .
وكان من الفروق بين الأسلوبين ، أن إتمام الاتصال اللاسلكي بين المستوى الأعلى والأدنى منه - في الأسلوب الشرقي - يلزم أن يتم بشكل نمطي ، على ترددين مختلفين ، أحدهـما أساسيٌ والآخر احتياطي ، بحيث لو انقطع الاتصال على الأساسي لأي سبب ، حَلّ البديلُ لحظياً محلّه . كما تدربنا كثيرا جداً على اختبار عمل الأجهزة ، والتأكد من ثبات وتدفق الاتصالات - ذهابا وإياباً - قبل الخروج لأية مناورة ( مشروع تدريبي ) .
وكان النظام الشرقي كذلك يتضمن قواعد صارمة ، كالتحكم في مدة الاتصال ، بحيث تتم العملية خلال زمن قياسى حده الأقصى ساعة ونصف من لحظة فتح الاتصال ، ثم يتم الغلق مرة أخرى . وكذلك تقسيم الاتصال لمستويات مختلفة ، من الفرقة إلى اللواء ، ومن اللواء للكتيبة ، وهكذا . في حين لم يكن النظام الغربى بهذا التعقيد ، وإنما يعتمد على شبكة مستقلة لكل من القيادة ، والعمليات ، والاستطلاع ، والشؤون الإدارية ، وليس أكثر من ذلك ، فكان للنظام الشرقي عبئاً إدارياً أكبر علينا . وكان سلاح الإشارة فى ذلك الوقت ، من الأفرع القوية في القوات المسلحة المصرية بلا شك .
باعتبار عمل ضابط الإشارة عموماً في الكتيبة ، فإنه ينقسم لفرعين ، أحدهما "لاسلكى" ، والآخر "خطوط" ( هاتفي ) . فيتولى ضابط اللاسلكى توليف ( ضبط موجات ) شبكة اللاسلكى ، ومكانه غالباً في مركبات متنقلة خاصة بذلك . أما ضابط الخطوط ، فوظيفته مشابهة من حيث تحقيق الاتصال بين الوحدات ، ولكنها بظروف وتفاصيل عمل مختلفة . ويشبه ذلك الفرق بين عمل ضباط المدفعية حسب اختلاف أنواعها ، فعملهم في مجمله واحد ، ولكن التفاصيل مختلفة .
وتوجد في سلاح الإشارة وسائل اتصال أخرى ، مثل الاتصال بالمندوبين ، كما توجد أيضاً أقسام مساعدة للوظيفة الأساسية ، مثل الشحن ، والتبريد ، وغيرها . وبسبب عملي كضابط لاسلكى ، قدّر الله أن أحضر جميع مشروعات وتدريبات الفرقة الرابعة مع قائد الفرقة في نفس المدرعة - وأنا مازلت برتبة ملازم - مما أكسبني قدراً كبيراً من الثقة والاطمئنان ، وقدراً وفيراً من خـبرات قائد الفرقة في نفس الوقت ، وعزز مكانتي كذلك بين الضباط والجنود ، بفضل الله .
استمريت بالعمل فى الفرقة الرابعة خمسة أعوام تقريباً حتى 1964 م ، وأصبحت في آخر عامين منها ، رئيساً لإشارة اللواء الثانى المدرع ، المخصص كاحتياطى للفرقة ، والمتمركز في المنطقة الشمالية الشرقية من الجمهورية ، غرب قناة السويس . أما التشكيلات الرئيسية للفرقة ، فكان تمركزها في القاهرة ، بما في ذلك اللواءين الأول والسادس الميكانيكيين ، واللواء الحادى عشر الثقيل ، بقيادة اللواء / المهدى ، بدبابات جى إس الثقيلة جدا
وحين انتقلت إلى اللواء الثاني بالفرقة ، كان كل من قائد ورئيس أركان اللواء قد انتقلا منه للتو ، وجاءنا اللواء "الجمسى" قائداً ، واللواء "سعد مأمون" رئيساً للأركان . وأذكر أنه حدث توتر فى ذلك العام 1960 م على الجبهة السورية ، فتم دفع قواتنا إلى سيناء لرد الصهاينة عن نيتهم في العدوان على سوريا الشقيقة ، وبدأت أسمع عن العقيد "الجَمَسي" ، بعد أن ذاع صيته في الفرقة أنه شديد الانضباط ، ووحدته دائماً متميزة ، وأداؤها جيد فى المناورات ، وتفوز باستمرار فى المسابقات ، وينجح ضباطها فى أى اختبارات يدخلونها . وكنت أنا وقتها برتبة ملازم أول ، ومكاني دائماً في مقدمة تشكيل الفرقة ، فكنت أتمنى أن أرى بنفسى ذلك القائد ذائع الصيت ، فرأيته يوم تحركنا إلى سيناء ، ، حيث كان التخطيط أن يعبر اللواء الثانى كوبرى الفردان عند الساعة 08:00 صباحا أثناء وجودنا هناك ، فراقبت لواء الجمسى وهو يتحرك ، بحكم أننى فى المقدمة . ثم رأيت سيارة عسكرية تتجاوز القوات العابرة ، وتعبر لتقف على الضفة الشرقية ، ثم نزل منها ضابط نحيف البنيان ، طويل القامة برتبة عقيد ، فعدّل من هيئته ووقف يتابع بنفسه تحرّك اللواء بالكامل على الكـوبرى . وإن دلّ ذلك على شيء ، فإنما يدل - من وجهة نظري - على أن جيشنا قبل 1967 م ، كان به قادة عظام ، وأن النكسة لم تكن بسبب تدني في مستوى حرفية الجيش ، ولكن لأسباب أخرى ، لأن نفس هؤلاء القادة أمثال الجمسي وسعد مأمون ، هم الذين خططوا لحرب 1973 م ، وانتصروا فيها بفضل الله . ثم وصل أحدهم بعد ذلك لأن يكون نائباً لرئيس وزراء مصر ، ووصل الثانى لأن يكون وزيراً في الحكومة المصرية ، وذلك لأن الأساس كان مبنياً بشكلٍ رائع ، منذ بدء عملهم فى وحداتهم الأساسية . وقد صممت أنا متأسيا بهم أن أكون من العناصر المساهمة في رفع مستوى اللواء الثانى ، وألا أكون سبباً فى انخفاض الأداء ، لا قدر الله .
وحين أكملت خمسة أعوام من العمل بالفرقة الرابعة مدرعات ، وأصبحت برتبة نقيب ، قال لي رئيس إشارة الفرقة / فؤاد نصار ( الذى عمل رئيساً للمخابرات الحربية خلال حرب رمضان / أكتوبر73 ) :
"لا بد من نقلِك إلى مكان آخر ، لتغـيير الدماء في الفـرقة" فطلبت منه أن يساعدني على الذهاب إلى اليمن ، كوسيلة لتحسين ظروفي المالية عن طريق بدل السفر . فوعدني خيرا ، ووافقت إدارة الإشارة على طلبه بنقلي إلى هناك ، لأن مكانته كانت وطيدة لديهم .
جاء توزيعي بعد التخرج ، على كتيبة الإشارة بالفرقة الرابعة المدرعة ، المتركزة بمنطقة "الهايكستب" في محافظة القاهرة ، وكان قائدها وقتها اللواء / على جمال ، من كبار قادة القوات المسلحة . وفى العام التالي مباشرة - 1960 م - تحولت مصر إلى شراء الأسلحة من الاتحاد السوفيتى ، عوضاً عن السوق الغربى ، تلافياً للصعوبات والعراقيل التي وضعها في طريقها الغرب ، فانهمكنا - نتيجة لذلك - في تغيير أسلوب عمل القوات المسلحة بالكامل من الأسلوب الغربى إلى الشرقى .
وكان قادتُنا متميزين بحمد الله ، فجعلوا التدريب على التغيير بين الأسلوبين ، يومياً ، وقسموا اليوم إلى نصفين ، ينتهى أولهما 2:30 / 3:00 عصراً ، وينتهي الآخر 6:00 مساءً . ثم مددّوا النصف الأول إلى الساعة 6:00 مساء ، والثاني إلى 11:00 مساء . فكـنا - فعلياً - نبيت فى الكتيبة لصباح اليوم التالى ، وتحولنا إلى شبه مقيمين فيها ، مما رفع درجة استيعابنا لعملنا ، بالأسلوبين كليهما ، إلى أقصى درجة ، بسرعة .
وبذلنا جهودا مضنية في التدريب على المعـدات الجـديدة الواردة تباعاً من الاتحاد السوفييتي ، بأساليب ومبادىء عمل جديدة علينا ، فاستوعبناها كاملة ، بأسرع ما تطيقه قدرة البشر .
وكان من الفروق بين الأسلوبين ، أن إتمام الاتصال اللاسلكي بين المستوى الأعلى والأدنى منه - في الأسلوب الشرقي - يلزم أن يتم بشكل نمطي ، على ترددين مختلفين ، أحدهـما أساسيٌ والآخر احتياطي ، بحيث لو انقطع الاتصال على الأساسي لأي سبب ، حَلّ البديلُ لحظياً محلّه . كما تدربنا كثيرا جداً على اختبار عمل الأجهزة ، والتأكد من ثبات وتدفق الاتصالات - ذهابا وإياباً - قبل الخروج لأية مناورة ( مشروع تدريبي ) .
وكان النظام الشرقي كذلك يتضمن قواعد صارمة ، كالتحكم في مدة الاتصال ، بحيث تتم العملية خلال زمن قياسى حده الأقصى ساعة ونصف من لحظة فتح الاتصال ، ثم يتم الغلق مرة أخرى . وكذلك تقسيم الاتصال لمستويات مختلفة ، من الفرقة إلى اللواء ، ومن اللواء للكتيبة ، وهكذا . في حين لم يكن النظام الغربى بهذا التعقيد ، وإنما يعتمد على شبكة مستقلة لكل من القيادة ، والعمليات ، والاستطلاع ، والشؤون الإدارية ، وليس أكثر من ذلك ، فكان للنظام الشرقي عبئاً إدارياً أكبر علينا . وكان سلاح الإشارة فى ذلك الوقت ، من الأفرع القوية في القوات المسلحة المصرية بلا شك .
باعتبار عمل ضابط الإشارة عموماً في الكتيبة ، فإنه ينقسم لفرعين ، أحدهما "لاسلكى" ، والآخر "خطوط" ( هاتفي ) . فيتولى ضابط اللاسلكى توليف ( ضبط موجات ) شبكة اللاسلكى ، ومكانه غالباً في مركبات متنقلة خاصة بذلك . أما ضابط الخطوط ، فوظيفته مشابهة من حيث تحقيق الاتصال بين الوحدات ، ولكنها بظروف وتفاصيل عمل مختلفة . ويشبه ذلك الفرق بين عمل ضباط المدفعية حسب اختلاف أنواعها ، فعملهم في مجمله واحد ، ولكن التفاصيل مختلفة .
وتوجد في سلاح الإشارة وسائل اتصال أخرى ، مثل الاتصال بالمندوبين ، كما توجد أيضاً أقسام مساعدة للوظيفة الأساسية ، مثل الشحن ، والتبريد ، وغيرها . وبسبب عملي كضابط لاسلكى ، قدّر الله أن أحضر جميع مشروعات وتدريبات الفرقة الرابعة مع قائد الفرقة في نفس المدرعة - وأنا مازلت برتبة ملازم - مما أكسبني قدراً كبيراً من الثقة والاطمئنان ، وقدراً وفيراً من خـبرات قائد الفرقة في نفس الوقت ، وعزز مكانتي كذلك بين الضباط والجنود ، بفضل الله .
استمريت بالعمل فى الفرقة الرابعة خمسة أعوام تقريباً حتى 1964 م ، وأصبحت في آخر عامين منها ، رئيساً لإشارة اللواء الثانى المدرع ، المخصص كاحتياطى للفرقة ، والمتمركز في المنطقة الشمالية الشرقية من الجمهورية ، غرب قناة السويس . أما التشكيلات الرئيسية للفرقة ، فكان تمركزها في القاهرة ، بما في ذلك اللواءين الأول والسادس الميكانيكيين ، واللواء الحادى عشر الثقيل ، بقيادة اللواء / المهدى ، بدبابات جى إس الثقيلة جدا
وحين انتقلت إلى اللواء الثاني بالفرقة ، كان كل من قائد ورئيس أركان اللواء قد انتقلا منه للتو ، وجاءنا اللواء "الجمسى" قائداً ، واللواء "سعد مأمون" رئيساً للأركان . وأذكر أنه حدث توتر فى ذلك العام 1960 م على الجبهة السورية ، فتم دفع قواتنا إلى سيناء لرد الصهاينة عن نيتهم في العدوان على سوريا الشقيقة ، وبدأت أسمع عن العقيد "الجَمَسي" ، بعد أن ذاع صيته في الفرقة أنه شديد الانضباط ، ووحدته دائماً متميزة ، وأداؤها جيد فى المناورات ، وتفوز باستمرار فى المسابقات ، وينجح ضباطها فى أى اختبارات يدخلونها . وكنت أنا وقتها برتبة ملازم أول ، ومكاني دائماً في مقدمة تشكيل الفرقة ، فكنت أتمنى أن أرى بنفسى ذلك القائد ذائع الصيت ، فرأيته يوم تحركنا إلى سيناء ، ، حيث كان التخطيط أن يعبر اللواء الثانى كوبرى الفردان عند الساعة 08:00 صباحا أثناء وجودنا هناك ، فراقبت لواء الجمسى وهو يتحرك ، بحكم أننى فى المقدمة . ثم رأيت سيارة عسكرية تتجاوز القوات العابرة ، وتعبر لتقف على الضفة الشرقية ، ثم نزل منها ضابط نحيف البنيان ، طويل القامة برتبة عقيد ، فعدّل من هيئته ووقف يتابع بنفسه تحرّك اللواء بالكامل على الكـوبرى . وإن دلّ ذلك على شيء ، فإنما يدل - من وجهة نظري - على أن جيشنا قبل 1967 م ، كان به قادة عظام ، وأن النكسة لم تكن بسبب تدني في مستوى حرفية الجيش ، ولكن لأسباب أخرى ، لأن نفس هؤلاء القادة أمثال الجمسي وسعد مأمون ، هم الذين خططوا لحرب 1973 م ، وانتصروا فيها بفضل الله . ثم وصل أحدهم بعد ذلك لأن يكون نائباً لرئيس وزراء مصر ، ووصل الثانى لأن يكون وزيراً في الحكومة المصرية ، وذلك لأن الأساس كان مبنياً بشكلٍ رائع ، منذ بدء عملهم فى وحداتهم الأساسية . وقد صممت أنا متأسيا بهم أن أكون من العناصر المساهمة في رفع مستوى اللواء الثانى ، وألا أكون سبباً فى انخفاض الأداء ، لا قدر الله .
وحين أكملت خمسة أعوام من العمل بالفرقة الرابعة مدرعات ، وأصبحت برتبة نقيب ، قال لي رئيس إشارة الفرقة / فؤاد نصار ( الذى عمل رئيساً للمخابرات الحربية خلال حرب رمضان / أكتوبر73 ) :
"لا بد من نقلِك إلى مكان آخر ، لتغـيير الدماء في الفـرقة" فطلبت منه أن يساعدني على الذهاب إلى اليمن ، كوسيلة لتحسين ظروفي المالية عن طريق بدل السفر . فوعدني خيرا ، ووافقت إدارة الإشارة على طلبه بنقلي إلى هناك ، لأن مكانته كانت وطيدة لديهم .
- ·حرب اليمن :
ذهبت إلى اليمن في منتصف 1964 م ، وبقيت فيها حتى نهاية 1965 م ، وخدمت خلال ذلك في كل من "صَنعاء" ، و"الحُديِّدة" ، و"مأرب" . وساعدنى ذلك فيما بعد ، مع دراساتي المتخصصة في جامعة الدول العربية ، أن أشارك في برامج تذكارية كثيرة عن حرب اليمن ، في وسائل إعلام مختلفة ، مثل "العربية" ، و"سكاى نيوز" ، وغيرها .
وأذكر أن أمورنا فى اليمن كانت جيدة فى البداية ، ولم يخلُ ذلك من خسائر طبعا - كما هو معتاد في أي حرب - وكانت قواتنا هناك ، سرية واحدة أولاً ، ثم بدأت تتزايد حتى أصبح ثلث قواتنا هناك . وخسرنا في حرب اليمن شباباً ، وقادة من خيرة رجالنا ، ولكن اليمن كانت وستظل ذات أهمية خاصة لمصر ، نظرا لتحكمها في استقرار الملاحة عبر قناة السويس ، من موقعها المسيطر على باب المندب ، كما أن الشعب اليمنى كان مغلوباً على أمره ، ويعاني من الفقر ، والجهل ، والمرض ، متخلفاً مائتي سنة عن حياة العالم المعاصر وقتها . والحقيقة أن مصر وفّت بمسؤولياتها تجاه اليمن ، كونها أكبر دولة عربية على الساحة ، فأرسلت أطباءها ومعلميها على نفقتها إلى هناك ، إضافة لجـيشها ، وبنت المستشفيات ، والمدارس ، للنهوض بالشعب اليمنى ، مما أدى لازدياد العبء الاقتصادي عليها رويداً رويداً ، وتعرضت للاستدانة ، في أواسط الستينات ، قبل النكسة .
ويجوز لنا القول - من وجهة نظر شخصية - إن حرب اليمن ، كانت حرباً بالوكالة بين الغرب الاستعماري بقيادة بريطانيا وأمريكا ، وبمشاركة إسرائيل ، وبين الكتلة الشرقية الشيوعية بقيادة الاتحاد السوفيتي - الخصم التقليدي للغرب الاستعماري - على أرض اليمن .
وحين اجتمع قادة الدول العربية بعد نكسة 1967 م ، لتدارك آثارها ، في مؤتمر القمة العربية بالخرطوم ، تم الاتفاق على وقف القتال باليمن ، وانسحاب القوات المصريهّ تدريجيا من هناك ، مقابل توقف الأنظمة العربية الداعمة لحاكم اليمن السابق - الملقب بالإمام - فوراً عن تزويده بالمال ، والسلاح ، والمرتزقة .
وأسجل هنا للتاريخ ، أن جيشنا أظهر بسالة وكفاءة قتالية باليمن في مواجهة عصابات متخفية بين صخور الجبال ، وليس جيشاً نظاميا في المواجهة ، فكان تقدم رجالنا في اليمن – باستمرار - بطيئاً ومكلّفاً ، حيث يمكن لفرد واحد من أفراد العدو ، وهو كامن بين صخور الجبل ، أن يمنع كتيبة مدرعات من التقدم عبر أحد المدقّات ( طريق غير مرصوف ) أسفل الجبل ، بواسطة رشاش وبضعة قنابل م/ د ( مضادة للمدرعات ) . ولذلك كانت قواتنا محتاجة لدعم جوي باستمرار ، لتعويض تفوق العـدو في استخدام تضاريس الجـبال في التمترس والاختفاء ، وبالمسالك بين المدن ، في الوقت الذي لم تكن لدى جيشنا أي خرائط لتلك الجبال خصوصا ، ولليمن كلها عموماً . ورغم أن خسائرنا البشرية هناك لم تكن كبيرة ، إلا أن استنزاف مجهود جزء كبير من خيرة وحدات جيشنا ، مع التكاليف والأعباء الإدارية اللازمة لذلك ، كان مرهقاً للبلد .
ورغم كل ما سبق ، فإن الهدف الاستراتيجي من تأمين حرية الملاحة عبر قناة السويس ، والهدف السياسى من تحرير دولة عربية كان نصفها وقتها تحت الاحتلال . فى وقت كانت مصر تقود فيه الشعوب العربية للتحرر من الاستعمار ، وتسعى لتحقيق الوحدة الشاملة ، تحت شعار "القومية العربية" ، تهون أمامهما الأعباء المالية والعسكرية . إذ كانت القيادة السياسية ترى أن مساعدتنا لثورة اليمن ، ستشجع الشعوب في باقي الدول العربية على القيام بثورات مماثلة ، ضد الأنظمة الخاضعة للهيمنة الأمريكية ، مما يؤدي لتقليل النفوذ الأمريكى - والأجنبي عموما - في الوطن العربي بأكمله .
واكتسبت خلال عملي باليمن ، كثيراً من الخبرات ، وعملت أثناء ذلك مع القيادات اليمينة المناوئة للاستعمار البريطاني بشكل مباشر ، وكانت مهمتى الأساسية هي تجنيد اليمنيين ، ثَمَ أخذهم إلى معسكر التدريب على القتال واستخدام الأسلحة ، ثم إلحاقهم على الوحدات المقاتلة .
وأذكر أن اليمنيين تحت حكم "البدر" وقتها ، كانوا أُناساً معدمين وأُميّين ، وبعضهم لا يعرف حتى اسمه بالكامل ، ولا يعتنون بمظهرهم ، ولا بنظافتهم الشخصية ، ولذلك فإن اليمنيين في الحقيقة يدينون بالفضل لمصر وللمصريين ، في نقلهم نقلة حضارية باتساع مائتي عام للأمام .
وفيما يخص ذكرياتي الشخصية ، فقد كانت معاركنا في اليمن ، عبارة عن هجوم على جبال ، أو دفاع ضد هجوم من الجبال . ومرّت بي هناك مواقف شعرت فيها أنه يستحيل النجاة منها ، وأننى سأموت فعلا . وعدت من هناك ، إلى فرع الاستطلاع اللاسلكى بسلاح الحرب الإلكترونية ، وقد تمت ترقيتي إلى رتبة النقيب .
وحين أعلنت القوات المسلحة عن دورات للراغبين في تعلم اللغة العبرية ، بالفترة المسائية ، فور عودتي من اليمن ، سارعت بالتقديم فيها ، واستطعت خلال عامين إجادتها قراءة ، وكتابة ، وتحدثاً ، بحمد الله . وعند إنشاء فـرع الاستطلاع الإليكتروني ، ووصول الأجهزة اللازمة ، بحثوا بين ضباط سلاح الإشارة عمن يجيدون العبرية ، فتم اختياري ، ضمن من تم اختيارهم .
وذهبت لوحدتى أول مرة ، وأنا لا أعلم شيئا عن عملي الجديد . وبعد أن قابلت القائد واستمعت لشرحه ، جلست وسط زملائى لأعرف المزيد عن مهمتني ، التي هي جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عـن العدو ، عبر التصنت على اتصالاته ، ثم نقوم بإعداد تقرير مفصل قد يصل إلى 25 ورقة ، في المرة الواحدة من مناورات العدو مثلاً ، تحوي كل التفاصيل - ونرفعه إلى المخابرات ، التي ترفعه بدورها مع مرئياتها إلى مكتب وزير الحربية ، لاتخاذ القرارات بناء على ما تجمع لديها من مصادر المعلومات جميعها ، سواء المراقبة بالنظر ، أو كمائن جمع المعلومات على الضفة الشرقية للقناة ، أو التسلل لعمق العدو ، أو التصوير جوي ، أو غير ذلك .
كانت جميع الأجهزة المستعملة في التصنت ، وفي التشويش الإلكتروني ، تتبع سلاح الإشارة ، ولا تتبع المخابرات . ولأن جمع المعلومات عن العدو ، وتضليله ، هما ضمن مسؤوليات المخابرات الحربية بالأساس ، فقد كانت المخابرات هي مرجعنا فعلياً في العمل ، رغم كوننا - تنظيميا وإدارياً - تابعين لسلاح الإشارة . وكانت تلك التبعية المزدوجة ، تسبب بعض المشاكل أحيانا بين الإدارتين . فيمكن مثلا أن تطلب إدارة الإشارة نقل أحد الضباط من الوحدة التي يعمل فيها إلى وحدة أخرى ، ولكن إدارة المخابرات تعترض لكفاءته في عمله بالوحدة الحالية . ومع ذلك فإن وجود المخابرات الحربية مع سلاح الإشارة في المنظومة ، كان مفيداً أحياناً في دفع العمل . إذ يمكن تأسيس وحدة إشارة جديدة ، في منطقة نائية لا تصلها الكهرباء مثلاً ، فذا طلبت المخابرات توفير مولّد كهرباء فى المكان ، لإمكان إتمام المهام المطلوبة ، تم توفير المولد فوراً ، لأن موارد المخابرات أوفر ، ونفوذها أقوى . بينما لن تستجيب المخابرات بنفس السرعة ، إذا كان المكان الجديد تابعاً لسلاح الإشارة بمفرده .
أذكر أيضاً أن دراستى عن إسرائيل فى أكاديمية ناصر العسكرية كان تأثيرها كبيراً على عملي ، في توجيهي الاتجاه السليم عند تحليل واستقراء المعلومات ، وتحديد مصدر الإشارة . ف معرفتي مثلا بأن قيادة القوات البحرية الإسرائيلية تقع بحيفا ، بينما الموانئ فى كلٍ من أشدود ، وتل أبيب ، وإيلات ، تساعدنى على تحديد مكان انبعاث الإشارة ، هل هو فى المنطقة الشمالية ؟ أو الجنوبية ؟ وذلك من الحديث الدائر فيها ، وهكذا .
وكانت أول خدمتى كضابط استطلاع إلكترونى بالكتيبة 519 ، و في المعادى
ووجدت فى أول أيام عملي بالكتيبة - المُنشأة حديثاً وقتها - أن فنيّات العمل فيها عالية جداً . مما أعطاني إحساسا نفسياً بالرضا ، وازدادت خبراتنا وقدراتنا - أنا وزملائي - على التحليل والاستنتاج بالممارسة . فعندما كنا نسمع إشارة يقال فيها مثلاً : "01 يبلغ 02 : استعد" ، أو مثلاً "الكبير قادم" ، فهى إشارات لأمور مهمة ستحدث ، وعلينا أن نستخرج مما نسمع معلومات تفيد صانع القرار بالقيادة .
ورغم إعجابي بطبيعة عملي الجديد ، إلا أنني لم أستمر فيه إلا ستة أشهر ، من نهاية 1965 م ، إلى منتصف 1966 م . لأننى التحقت بكلية القادة والأركان ، فلم تكن تلك المدة كافية لاستيعاب كل تفاصيل العمل ، ولكنني أستطيع التأكيد أننا نحـصل عـلى الكـثير من المعـلومات عن العـدو ، بسهولة ، ووفـرة ، ووضوح ، بما لا يتخيله أحد . وجميعها معلومات يصعُب جداً الحصول عليها بالطرق التقليدية ، مثل ما يحصل عليه أبطال الاستطلاع من عمق العدو مثلاً ، وما تحصل عليه المخابرات بالتصوير الجوي ، وبجميع وسائلها الأخرى غير التصنت .
ومن ذلك أننا كـنا إذا أجـرى الصهاينة مناورة تدريبية مثلاً ، نستطيع تمييز الوحـدات المشتركة فـيها بأنواعها ، وأسمائها ، وأرقامها ، ومن أين تحركت ، وأين ذهبت ، ومواعيد بدء التمارين ، والوحدات المعاونة . فكانت الإشارات تستمر على مدار الساعة ، طوال المناورة . وكنت أنا - كرئيس للوحدة - حين يتملكنى التعب أثناء ذلك ، أنام ساعتين أو ثلاثة ، ثم أستيقظ لاستئناف العمل مع زملائى ، حتى لا يفوتنا أى جزء من المناورة . فإذا رفعنا تقريرنا بعد انتهائها ، نشعر بسعادة ، وراحة نفسية ، تعوضنا عن المجهود الذي بذلناه ، وتزيدنا اعتزازاً بأهمية دورنا في دعم قواتنا المسلحة ، بالرغم من أننا لسنا وحدة مقاتلة .
في عام 1971 م ، تم اختياري لحضور دورة مدتها ثلاثة أشهر بالاتحاد السوفييتى ، عن الاستطلاع الإلكترونى ، وأسلوب تحليل البيانات . وكان الخبراء السوفييت في ذاك الوقت ، موجودين في مصر أيضاً ، للإسراع بإتقاننا للعمل .
وكنا فور التقاط أي إشارة ، نقوم بتشغيل أجهزة تحديد الاتجاه ، في مكانين آخرين بالتزامن معنا ، كـمرسى مطـروح ، والأقصر مثلاً . ليمكن تشكيل مثلث افتراضي على الخريطة ، يمثل إحداثيات مصدر الإشارة وفق تقديرات الأجهزة الثلاثة ، مما يساعد على تحديد إحداثيات مصدر الإشارة بدقة . وخلال مدة أقصاها دقيقة أو اثنتين من انتهاء الإشارة ، نكون قد أتممنا كتابة مضمونها ، وإحداثيات مصدرها ، في تقرير يتم رفعه فوراً للقيادة . وكان نشاطنا يغطي خط القناة ، وشبه جزيرة سيناء ، وفلسطين المحتلة بالكامل ، ومصر بالكامل أيضاً . وكانت الوحدة تعمل بكفاءة 100% قبل النكسة .
وكنا للتأكد من أن الإشارة الملتقطة حقيقية ، وليست مزيفة Fakeلتضليلنا ، نستخدم أكثر من مجال موجي واحد في التصنت ، مثل مجالHF ، ومجالVHF معاً ، فإذا كانت الإشارة ملتقطة في كلا المجالين ، تأكدنا أنها حقيقية . وأذكر أن اليهود فى بداية حرب 1967 م ، كان يتكلمون فيما بينهم بشكل مفتوح غير مشفّر ، وعندما أدركوا أننا نسمعهم ، بدأوا يتعاملون بالشفرة . فلكى يضرب منطقة الشاطيء فى السويس مثلاً ، يقول "اضرب أخضر" ، وكنت في البداية عندما ألتقط الإشارة ، أبدأ فى تنبيه المناطق القريبة منى بأنه سيتم الضرب ، لكنّى لا أعلم المكان بالضبط ، ثم بعد الضرب أعرف أنه كان فى شاطىء السويس ، ومع التكرار أتأكد أن "أخضر" تعنى شاطىء السويس ، فأصبحت إذا تأكدت أن الإشارة حقيقية ، وليست للتضليل ، أرسل التنبيه مُحدَداً فيه الموقع أيضاً .
وأذكر أن الصهاينة ، وصلت لهم في وقت من الأوقات أجهزة حديثة تحول الكلمات بالصوت العادي إلى أصوات لا يمكن تمييزها ، إلا باستعمال جهاز مقابل يعيد تحويل تلك الأصوات إلى كلمات مرة أخرى . فكانوا هم باستمرار يحاولون التعمية علينا بطريقة ، ونحن نحاول في اتجاه معاكس بطريقة أخرى . وجدير بالذكر أنه كان لدينا زملاء مختصين بالتصنت على قاعدة هيروكليز الأمريكية فى طرابلس بليبيا تحديداً ، وعلى الأسطول السادس الأمريكي في البحر المتوسط أيضاً .
وأذكر أن أمورنا فى اليمن كانت جيدة فى البداية ، ولم يخلُ ذلك من خسائر طبعا - كما هو معتاد في أي حرب - وكانت قواتنا هناك ، سرية واحدة أولاً ، ثم بدأت تتزايد حتى أصبح ثلث قواتنا هناك . وخسرنا في حرب اليمن شباباً ، وقادة من خيرة رجالنا ، ولكن اليمن كانت وستظل ذات أهمية خاصة لمصر ، نظرا لتحكمها في استقرار الملاحة عبر قناة السويس ، من موقعها المسيطر على باب المندب ، كما أن الشعب اليمنى كان مغلوباً على أمره ، ويعاني من الفقر ، والجهل ، والمرض ، متخلفاً مائتي سنة عن حياة العالم المعاصر وقتها . والحقيقة أن مصر وفّت بمسؤولياتها تجاه اليمن ، كونها أكبر دولة عربية على الساحة ، فأرسلت أطباءها ومعلميها على نفقتها إلى هناك ، إضافة لجـيشها ، وبنت المستشفيات ، والمدارس ، للنهوض بالشعب اليمنى ، مما أدى لازدياد العبء الاقتصادي عليها رويداً رويداً ، وتعرضت للاستدانة ، في أواسط الستينات ، قبل النكسة .
ويجوز لنا القول - من وجهة نظر شخصية - إن حرب اليمن ، كانت حرباً بالوكالة بين الغرب الاستعماري بقيادة بريطانيا وأمريكا ، وبمشاركة إسرائيل ، وبين الكتلة الشرقية الشيوعية بقيادة الاتحاد السوفيتي - الخصم التقليدي للغرب الاستعماري - على أرض اليمن .
وحين اجتمع قادة الدول العربية بعد نكسة 1967 م ، لتدارك آثارها ، في مؤتمر القمة العربية بالخرطوم ، تم الاتفاق على وقف القتال باليمن ، وانسحاب القوات المصريهّ تدريجيا من هناك ، مقابل توقف الأنظمة العربية الداعمة لحاكم اليمن السابق - الملقب بالإمام - فوراً عن تزويده بالمال ، والسلاح ، والمرتزقة .
وأسجل هنا للتاريخ ، أن جيشنا أظهر بسالة وكفاءة قتالية باليمن في مواجهة عصابات متخفية بين صخور الجبال ، وليس جيشاً نظاميا في المواجهة ، فكان تقدم رجالنا في اليمن – باستمرار - بطيئاً ومكلّفاً ، حيث يمكن لفرد واحد من أفراد العدو ، وهو كامن بين صخور الجبل ، أن يمنع كتيبة مدرعات من التقدم عبر أحد المدقّات ( طريق غير مرصوف ) أسفل الجبل ، بواسطة رشاش وبضعة قنابل م/ د ( مضادة للمدرعات ) . ولذلك كانت قواتنا محتاجة لدعم جوي باستمرار ، لتعويض تفوق العـدو في استخدام تضاريس الجـبال في التمترس والاختفاء ، وبالمسالك بين المدن ، في الوقت الذي لم تكن لدى جيشنا أي خرائط لتلك الجبال خصوصا ، ولليمن كلها عموماً . ورغم أن خسائرنا البشرية هناك لم تكن كبيرة ، إلا أن استنزاف مجهود جزء كبير من خيرة وحدات جيشنا ، مع التكاليف والأعباء الإدارية اللازمة لذلك ، كان مرهقاً للبلد .
ورغم كل ما سبق ، فإن الهدف الاستراتيجي من تأمين حرية الملاحة عبر قناة السويس ، والهدف السياسى من تحرير دولة عربية كان نصفها وقتها تحت الاحتلال . فى وقت كانت مصر تقود فيه الشعوب العربية للتحرر من الاستعمار ، وتسعى لتحقيق الوحدة الشاملة ، تحت شعار "القومية العربية" ، تهون أمامهما الأعباء المالية والعسكرية . إذ كانت القيادة السياسية ترى أن مساعدتنا لثورة اليمن ، ستشجع الشعوب في باقي الدول العربية على القيام بثورات مماثلة ، ضد الأنظمة الخاضعة للهيمنة الأمريكية ، مما يؤدي لتقليل النفوذ الأمريكى - والأجنبي عموما - في الوطن العربي بأكمله .
واكتسبت خلال عملي باليمن ، كثيراً من الخبرات ، وعملت أثناء ذلك مع القيادات اليمينة المناوئة للاستعمار البريطاني بشكل مباشر ، وكانت مهمتى الأساسية هي تجنيد اليمنيين ، ثَمَ أخذهم إلى معسكر التدريب على القتال واستخدام الأسلحة ، ثم إلحاقهم على الوحدات المقاتلة .
وأذكر أن اليمنيين تحت حكم "البدر" وقتها ، كانوا أُناساً معدمين وأُميّين ، وبعضهم لا يعرف حتى اسمه بالكامل ، ولا يعتنون بمظهرهم ، ولا بنظافتهم الشخصية ، ولذلك فإن اليمنيين في الحقيقة يدينون بالفضل لمصر وللمصريين ، في نقلهم نقلة حضارية باتساع مائتي عام للأمام .
وفيما يخص ذكرياتي الشخصية ، فقد كانت معاركنا في اليمن ، عبارة عن هجوم على جبال ، أو دفاع ضد هجوم من الجبال . ومرّت بي هناك مواقف شعرت فيها أنه يستحيل النجاة منها ، وأننى سأموت فعلا . وعدت من هناك ، إلى فرع الاستطلاع اللاسلكى بسلاح الحرب الإلكترونية ، وقد تمت ترقيتي إلى رتبة النقيب .
وحين أعلنت القوات المسلحة عن دورات للراغبين في تعلم اللغة العبرية ، بالفترة المسائية ، فور عودتي من اليمن ، سارعت بالتقديم فيها ، واستطعت خلال عامين إجادتها قراءة ، وكتابة ، وتحدثاً ، بحمد الله . وعند إنشاء فـرع الاستطلاع الإليكتروني ، ووصول الأجهزة اللازمة ، بحثوا بين ضباط سلاح الإشارة عمن يجيدون العبرية ، فتم اختياري ، ضمن من تم اختيارهم .
وذهبت لوحدتى أول مرة ، وأنا لا أعلم شيئا عن عملي الجديد . وبعد أن قابلت القائد واستمعت لشرحه ، جلست وسط زملائى لأعرف المزيد عن مهمتني ، التي هي جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عـن العدو ، عبر التصنت على اتصالاته ، ثم نقوم بإعداد تقرير مفصل قد يصل إلى 25 ورقة ، في المرة الواحدة من مناورات العدو مثلاً ، تحوي كل التفاصيل - ونرفعه إلى المخابرات ، التي ترفعه بدورها مع مرئياتها إلى مكتب وزير الحربية ، لاتخاذ القرارات بناء على ما تجمع لديها من مصادر المعلومات جميعها ، سواء المراقبة بالنظر ، أو كمائن جمع المعلومات على الضفة الشرقية للقناة ، أو التسلل لعمق العدو ، أو التصوير جوي ، أو غير ذلك .
كانت جميع الأجهزة المستعملة في التصنت ، وفي التشويش الإلكتروني ، تتبع سلاح الإشارة ، ولا تتبع المخابرات . ولأن جمع المعلومات عن العدو ، وتضليله ، هما ضمن مسؤوليات المخابرات الحربية بالأساس ، فقد كانت المخابرات هي مرجعنا فعلياً في العمل ، رغم كوننا - تنظيميا وإدارياً - تابعين لسلاح الإشارة . وكانت تلك التبعية المزدوجة ، تسبب بعض المشاكل أحيانا بين الإدارتين . فيمكن مثلا أن تطلب إدارة الإشارة نقل أحد الضباط من الوحدة التي يعمل فيها إلى وحدة أخرى ، ولكن إدارة المخابرات تعترض لكفاءته في عمله بالوحدة الحالية . ومع ذلك فإن وجود المخابرات الحربية مع سلاح الإشارة في المنظومة ، كان مفيداً أحياناً في دفع العمل . إذ يمكن تأسيس وحدة إشارة جديدة ، في منطقة نائية لا تصلها الكهرباء مثلاً ، فذا طلبت المخابرات توفير مولّد كهرباء فى المكان ، لإمكان إتمام المهام المطلوبة ، تم توفير المولد فوراً ، لأن موارد المخابرات أوفر ، ونفوذها أقوى . بينما لن تستجيب المخابرات بنفس السرعة ، إذا كان المكان الجديد تابعاً لسلاح الإشارة بمفرده .
أذكر أيضاً أن دراستى عن إسرائيل فى أكاديمية ناصر العسكرية كان تأثيرها كبيراً على عملي ، في توجيهي الاتجاه السليم عند تحليل واستقراء المعلومات ، وتحديد مصدر الإشارة . ف معرفتي مثلا بأن قيادة القوات البحرية الإسرائيلية تقع بحيفا ، بينما الموانئ فى كلٍ من أشدود ، وتل أبيب ، وإيلات ، تساعدنى على تحديد مكان انبعاث الإشارة ، هل هو فى المنطقة الشمالية ؟ أو الجنوبية ؟ وذلك من الحديث الدائر فيها ، وهكذا .
وكانت أول خدمتى كضابط استطلاع إلكترونى بالكتيبة 519 ، و في المعادى
ووجدت فى أول أيام عملي بالكتيبة - المُنشأة حديثاً وقتها - أن فنيّات العمل فيها عالية جداً . مما أعطاني إحساسا نفسياً بالرضا ، وازدادت خبراتنا وقدراتنا - أنا وزملائي - على التحليل والاستنتاج بالممارسة . فعندما كنا نسمع إشارة يقال فيها مثلاً : "01 يبلغ 02 : استعد" ، أو مثلاً "الكبير قادم" ، فهى إشارات لأمور مهمة ستحدث ، وعلينا أن نستخرج مما نسمع معلومات تفيد صانع القرار بالقيادة .
ورغم إعجابي بطبيعة عملي الجديد ، إلا أنني لم أستمر فيه إلا ستة أشهر ، من نهاية 1965 م ، إلى منتصف 1966 م . لأننى التحقت بكلية القادة والأركان ، فلم تكن تلك المدة كافية لاستيعاب كل تفاصيل العمل ، ولكنني أستطيع التأكيد أننا نحـصل عـلى الكـثير من المعـلومات عن العـدو ، بسهولة ، ووفـرة ، ووضوح ، بما لا يتخيله أحد . وجميعها معلومات يصعُب جداً الحصول عليها بالطرق التقليدية ، مثل ما يحصل عليه أبطال الاستطلاع من عمق العدو مثلاً ، وما تحصل عليه المخابرات بالتصوير الجوي ، وبجميع وسائلها الأخرى غير التصنت .
ومن ذلك أننا كـنا إذا أجـرى الصهاينة مناورة تدريبية مثلاً ، نستطيع تمييز الوحـدات المشتركة فـيها بأنواعها ، وأسمائها ، وأرقامها ، ومن أين تحركت ، وأين ذهبت ، ومواعيد بدء التمارين ، والوحدات المعاونة . فكانت الإشارات تستمر على مدار الساعة ، طوال المناورة . وكنت أنا - كرئيس للوحدة - حين يتملكنى التعب أثناء ذلك ، أنام ساعتين أو ثلاثة ، ثم أستيقظ لاستئناف العمل مع زملائى ، حتى لا يفوتنا أى جزء من المناورة . فإذا رفعنا تقريرنا بعد انتهائها ، نشعر بسعادة ، وراحة نفسية ، تعوضنا عن المجهود الذي بذلناه ، وتزيدنا اعتزازاً بأهمية دورنا في دعم قواتنا المسلحة ، بالرغم من أننا لسنا وحدة مقاتلة .
في عام 1971 م ، تم اختياري لحضور دورة مدتها ثلاثة أشهر بالاتحاد السوفييتى ، عن الاستطلاع الإلكترونى ، وأسلوب تحليل البيانات . وكان الخبراء السوفييت في ذاك الوقت ، موجودين في مصر أيضاً ، للإسراع بإتقاننا للعمل .
وكنا فور التقاط أي إشارة ، نقوم بتشغيل أجهزة تحديد الاتجاه ، في مكانين آخرين بالتزامن معنا ، كـمرسى مطـروح ، والأقصر مثلاً . ليمكن تشكيل مثلث افتراضي على الخريطة ، يمثل إحداثيات مصدر الإشارة وفق تقديرات الأجهزة الثلاثة ، مما يساعد على تحديد إحداثيات مصدر الإشارة بدقة . وخلال مدة أقصاها دقيقة أو اثنتين من انتهاء الإشارة ، نكون قد أتممنا كتابة مضمونها ، وإحداثيات مصدرها ، في تقرير يتم رفعه فوراً للقيادة . وكان نشاطنا يغطي خط القناة ، وشبه جزيرة سيناء ، وفلسطين المحتلة بالكامل ، ومصر بالكامل أيضاً . وكانت الوحدة تعمل بكفاءة 100% قبل النكسة .
وكنا للتأكد من أن الإشارة الملتقطة حقيقية ، وليست مزيفة Fakeلتضليلنا ، نستخدم أكثر من مجال موجي واحد في التصنت ، مثل مجالHF ، ومجالVHF معاً ، فإذا كانت الإشارة ملتقطة في كلا المجالين ، تأكدنا أنها حقيقية . وأذكر أن اليهود فى بداية حرب 1967 م ، كان يتكلمون فيما بينهم بشكل مفتوح غير مشفّر ، وعندما أدركوا أننا نسمعهم ، بدأوا يتعاملون بالشفرة . فلكى يضرب منطقة الشاطيء فى السويس مثلاً ، يقول "اضرب أخضر" ، وكنت في البداية عندما ألتقط الإشارة ، أبدأ فى تنبيه المناطق القريبة منى بأنه سيتم الضرب ، لكنّى لا أعلم المكان بالضبط ، ثم بعد الضرب أعرف أنه كان فى شاطىء السويس ، ومع التكرار أتأكد أن "أخضر" تعنى شاطىء السويس ، فأصبحت إذا تأكدت أن الإشارة حقيقية ، وليست للتضليل ، أرسل التنبيه مُحدَداً فيه الموقع أيضاً .
وأذكر أن الصهاينة ، وصلت لهم في وقت من الأوقات أجهزة حديثة تحول الكلمات بالصوت العادي إلى أصوات لا يمكن تمييزها ، إلا باستعمال جهاز مقابل يعيد تحويل تلك الأصوات إلى كلمات مرة أخرى . فكانوا هم باستمرار يحاولون التعمية علينا بطريقة ، ونحن نحاول في اتجاه معاكس بطريقة أخرى . وجدير بالذكر أنه كان لدينا زملاء مختصين بالتصنت على قاعدة هيروكليز الأمريكية فى طرابلس بليبيا تحديداً ، وعلى الأسطول السادس الأمريكي في البحر المتوسط أيضاً .
- ·حـرب 1967 م :
بعد أشهر قليلة من التحاقي بكلية القادة والأركان ، في أكاديمية ناصر العسكرية ، وبالتحديد فى 15 مايو 1967 م ، تم رفع درجة الاستعداد ، ووقف الدراسة بالمعاهد التعليمية ، ورجوعنا لوحداتنا الأصلية ، وذلك لتوزيعنا من جديد على الأماكن الشاغرة فيها . ولكوني ضابط إشارة ، لا ضابط مخابرات ، فقد تم توزيعى على الكتيبة رقم 619 ، المسؤولة عن تشغيل محطة رادار سيناء . وكان الفريق / محمد فوزى رحمه الله ، قد أجرى تغييراً في قياداتها للتو ، ووصلنى خطاب التوزيع يوم 22 مايو 1967 م ، فتوجهت إلى قيادة القوات الجوية ، لأن الرادار كان تابعاً لها ، وقابلت رئيس فرع الرادار هناك ، فأمرنى بالعودة للمنزل ، والرجوع في اليوم التالى ، للسفر إليها سوياً ، ووصلنا قياده الكتيبة فى المليز يوم 30 مايو ، فتركني هناك ورجع إلى القاهرة ، وتسلمت القيادة ، ورأيت هنالك أجهزة الرادار ، وكيفية عملها والنظام الإداري للعمل ، وكان نطاق المحطة يغطي سيناء بالكامل ، وكان موقعنا على الطريق الرئيسى لمطار المليز ، فرأيت ضغطاً ، وحشوداً كثيرة تتحرك عليه ، وبدأنا نسمع عن تعديلات فجائية في قيادات المنطقة ، فشعرنا بوجود حالة من التخبط لا تناسب استعدادنا لمعركة تبدو قريبة ، وهو ما يدل في نظري على أن الهزيمة لم تكن بسبب أبطالنا المقاتلين في الجيش ، وإنما بسبب أخطاء جسيمة من القيادات العليا ، ومن أدلة ذلك ما يلي :
01 - دخلنا الحرب وقواتنا بسيناء تعمل تحت ثلاثة قيادات في وقت واحد ، لواء / صلاح محسن قائد المنطقة الشرقية ، وفريق / عبد المحسن مرتجى قائد القوات البرية المتقدمة ، والمشير / عبد الحكيم عامر وزير الحربية ، فكان حدوث تضارب فى الأوامر وارداً ، لتعدد مراكز القيادة .
01 - دخلنا الحرب وقواتنا بسيناء تعمل تحت ثلاثة قيادات في وقت واحد ، لواء / صلاح محسن قائد المنطقة الشرقية ، وفريق / عبد المحسن مرتجى قائد القوات البرية المتقدمة ، والمشير / عبد الحكيم عامر وزير الحربية ، فكان حدوث تضارب فى الأوامر وارداً ، لتعدد مراكز القيادة .
- كانت هناك تقارير أمام رئيس الجمهورية بأن القوات المسلحة ليست جاهزة لدخول حرب جديدة موازية الآن ، نظراً لوجود الجزء الرئيسي منها فى اليمن ، والمتوفر حاليا ، لا يكفي لذلك .
- كانت الطائرات المصرية بالكامل في عموم مطارات مصر ، رابضة مكشوفة على الأرض ، دون دشم ( ملاجىء حصينة ) ، ولا أى تّأمين . ورغم أن قائد سلاح الطيران وقتها رفض فكرة ترك إسرائيل تبدأ بالهجوم ، لئلا نفقد سلاحنا الجوي كله بسبب ذلك ، إلا أن الرئيس جمال استجاب لتطمينات عامر وزير الحربية ، بأن قواتنا المسلحة ، على وضعها حينئذ جاهزة للحرب .
- أما باقي قيادات الصف الثاني ، فكان لديهم خطأ في تقدير الموقف ، وربما ظنوا أن الأمر لن يعدو مظاهرة عسكرية ترهب الصهاينة عن مهاجمة الشقيقة سوريا ، مثلما حدث عام 1960 م ، حتى أنه تم تنظيم حفل ترفيهي لطياري القوات الجوية في الليلة السابقة على النكسة ، في وقت يُفترض فبه أنهم في الحالة (ج) تأهب داخل طائراتهم ، أو على الأقل متواجدين بجوارها جاهزين للإقلاع ، عند أي طارئ .
- في الصباح الباكر من يوم 05 يونيو كان وزير الحربية ، فى الجو على متن طائرته العسكرية فوق سيناء ، مما يوقف وسائل الدفاع الجوى عن العمل ، وكانت إمكانيات العدو عالية ، وأمريكا تمده بالمعلومات عن طريق سفينة التجسس "ليبرتي" التابعة لهم في البحر المتوسط ، فالغالب أنهم عرفوا بالخبر ، وانتهزوا الفرصة .
- لم تسمح القوى العظمى لمصر أن تبدأ بالهجوم ، بالتصريحات الإعلامية الخادعة من جهة ، وبحجة أن بدء مصر بالهجوم سيحرمهم إمكانية دعمها ، لظهورها بمظهر المعتدى ، من جهة أخرى ، مما أعطى ميزة فارقة للعدو .
- 07. رغم انصياع الرئيس جمال رحمه الله للسوفييت ، بألا تكون مصر هي البادئة بالحرب ، فقد تخاذلوا عن دعم مصر بعد الهجوم عليها . غير ما تبين لاحقاً - بعد وفاة جمال عبدالناصر بسنوات طويلة - أن الخبر الذي نقلوه له بوجود حشود إسرائيلية على الجبهة السورية ، لم يكن صحيحاً ، بل قيل إن موشى ديان اصطحب السفير السوفييتي فى طائرة هليكوبتر فوق هضبة الجولان ليتحقق بنفسه من عدم وجود أى حشود مزعومة عليها . أي أن الاتحاد السوفييتي لعب معنا لعبة قذرة ، باستدراجنا لحرب لم نكن جاهزين لها .
وقد رأيت بنفسي قواتنا التى يتم حشدها قبل النكسة مباشرة ، عبارة عن أفراد قد تم تجميعهم من المدن والقرى ، على عربات النقل العسكرية بالجلاليب ( ثوب شعبي تقليدي ، أشبه بكيس من القماش بطول قامة الإنسان ، ذي فتحة للرقبة ، وأكمام للذراعين ) ، والأطقم - التي يفترض أنها مقاتلة - يتم تكوينها ، وتدريبها على استعمال الأسلحة والمركبات قبل الحرب بأيام . لكن بالنسبة لطاقم الرادار بشكل خاص ، فكانوا أبطالاً ذوي كفاءة عالية ، لأن أغلبهم كانوا من المتطوعين (ضباط صف محترفين ، وليسوا من مجندي الخدمة الإلزامية المؤقتين ) قد تمرّسوا على الأجهزة جيدا ، وعملوا عليها لسنوات . وكانت القوات الجوية تتخير المتطوعين لتشغيل الرادارات ، لأن الأجهزة غالية ، فلا يعمل عليها إلا ذوي الخبرة ، المستمرين في الخدمة لفترات طويلة .
وفي صباح 5 يونيو ، كنا مجتمعين فى الطابور اليومي ، لأخذ تمام الكتيبة كالمعتاد - لغير المناوبين على الأجهزة - وكنت أنا الضابط رقم 02 في الكتيبة بعد قائدها المقدم / يسرى ، وكان قد تم تعيينه حديثا من القوات الجوية ، مثل معظم قادة الوحدات في سيناء وقتها . وكان باقى الكتيبة من الورش والشئون الإدارية . وبحكم أننى ضابط إشارة ، فكنت منشغلاً بأعمالي الإدارية الكثيرة ، وكان معي أحد المساعدين فى الخيمة ، فسمعنا فجأة أصوات الضرب ، فأمرته أن ينظر في الخارج ، ليخبرنى عما حدث ، ولكنه ما أن خرج حتى توالت أصوات الانفجارات ، ولم يرجع المساعد مرة أخرى ، فخرجت لأستطلع الخبر ، فإذا طائراتنا يتم ضربها على الأرض فى المطار ، والنيران مشتعلة فيها ، فعرفت أن الحرب قد بدأت ، رغم أني لم أكن لاحظت أي شوشرة ، أو أي شيئ غير عادي قبل الهجوم ، ربما لأنهم بدأوا التنفيذ مبكراً بعدما علموا بأن طائرة المشير في الجو ، وربما كانوا ينوون بدء الشوشرة بعد الهجوم مباشرة ، من السفينة الأمريكية . لكن بعد الهجوم لم تكن هناك حاجة للشوشرة أصلاً ، لأن معظم الأجهزة كانت قد ضربت وانتهى الأمر . وبعد ضرب الطائرات ، والممرات ، وجميع المنشآت ، لم تخرج أى طائرة من المطار ، ولم تعد هناك طائرات لتخرج أصلاً .
وشعرت وقتها كأن الدنيا قد أظلمت ، وأن ما يحدث هو تكرار لما حصل في 1956 م . وأدركت أنه إذا كان باقي سلاحنا الجوي قد تم تدميره مثل ما حصل عندنا في المليز ، فإن الأمل ضعيف فى توقف الحرب الآن . وبقيت خطوط اتصالنا مع القيادات معطلة حتى مساء يوم 06 يونيو . وكلما حاولنا إصلاح هوائيات الاتصال أو الرادار ، ضربها الصهاينة مرة أخرى ، فأُصبنا بخسائر عالية فى المعدات ، والأفراد كليهما . ولم نكن قد جهزنا ملاجيء لنا بعد ، معتبرين أن ذلك تحصيل حاصل ، وأن الحرب لن تقوم بتلك السرعة أصلاً .
وانقطعت جميع الاتصالات بالكامل ، وعلمنا ببدء انسحاب قواتنا ، فخرجنا فى اليوم الثالث مع قائد الكتيبة سيراً على الأقدام - بمبادرة منه - قاصدين الضفة الشرقية للقناة على بعد 60 كيلومتراً ، فى نفس اليوم ، محاولين الوصول إليها بأقصى سرعة وبأى وسيلة ، فتحركنا مع آخر ضوء - تحرزا من الغارات المعادية أثناء النهار - ونحن فى حالة انهيار ، لا نعلم أى نوع من الكوارث بانتظارنا ، وإلى أي مدىً سيصل العدو ، وفي الطريق ، رأيت عرباتنا وقد تم قصفها ، وعربات أخرى يتم قصفها أثناء مرورنا ، وعربات مقلوبة ، أو محطمة من حوادث التصادم بسبب السرعة الزائدة ، ووصلنا القناة في التاسعة مساء تقريباً ، وانتظرنا دورنا ، حتى عبرنا عند الثانية صباحاً تقريباً ، وكانت محنة شديدة للقوات المسلحة .
وبعد العبور ، توجهنا إلى قيادة المنطقة الشرقية ، وبقينا فيها يوما واحداً ، ثم تلقينا الأوامر بالالتحاق بوحداتنا في القاهرة . وفى معسكر الجلاء ، وجدنا القيادات كلها منهارة ، وجميع الوحدات تحاول الاتصال بقياداتها لتعرف الأخبار ، وتأخذ التعليمات ، ولكن لا توجد أى معلومات لدى أي أحد ، والقيادات العليا غائبة عن المشهد .
وفي يوم 09 يونيو ، كان صوت خطاب التنحي مسموعاً في إدارة الإشارة ، وهم مشغولين بالبحث عن أماكن لتوزيعنا . وكان لذلك تأثيراً صادماً علينا ، ورأينا الجماهير هائمة على وجهها فى الشوارع ، حيارى فيمن يمكن أن يتولى المسؤولية بعد عبدالناصر ؟ وما هو مصيرها ؟ ، وكنا كعسكريين نبتعد عن مناقشة المدنيين ، لأنهم ظنوا أن مقاتلي الجيش تخاذلوا ، وفروا من المعركة ، وصاروا بذلك مسؤولين عن الهزيمة ، مع أن الحقيقة أن كل فرد فى الجيش كان يقوم بدوره في موقعه ، بينما القيادات العليا أخلت بالأمانة .
بعد رجوعي للمنزل ، ظل الصمت هو سيد الموقف ، وأعطتهم رؤيتهم لي - سليماً معافى - شيئاً من العزاء ، لكن الصورة العامة لوضع البلد ككل كانت مظلمة ، ورأيت السؤال الحائر في أعينهم : "كيف تكون فى البيت بعد 03 أيام فقط من بدء الحرب !!؟" ، فكانت المرارة شديدة ، وظللت مختبئاً طوال فترة وجودي هناك ، لا أقابل أحداً ، وتصيبني حالة هيستريا ، كلما سمعت أى صوت مرتفع ، من هول ما رأيت وسمعت في الأيام الثلاثة التي حضرتها على الجبهة قبل عودتي ، وأثناءها .
وفي يوم 13 يوليو 1967 م ، تم توزيعى على كتيبة الاستطلاع اللاسلكى بالمعادى مرة أخرى ، بسبب مؤهلاتي ، وسمعت من زملائى هناك ، أنه كان هناك حشد ظاهر للعدو قبل الحرب ، وشاركوني الظن أن القيادات لم تأخذ ذلك على محمل الجد ، وأفرط بعضهم في الثقة الزائدة بالنفس ، فنتج عن ذلك إحساس كاذب أن الحرب ستكون تظاهرية ، ثم تنسحب إسرائيل كما حصل عام 1960 م . ولكن وجهة نظر العدو كانت مختلفة . وأتصور أن الخطأ كان من القيادتين العسكرية والسياسية ، من حيث اندفع الرئيس عبدالناصر رحمه الله لتصعيد الأمور ، استناداً على تأكيد المشير له أنه مستعد للحرب - بخلاف الحقيقة - ومتجاهلاً تقارير مخابراته بذلك . ولكن حتى لو فرضنا أن المشير كان على صواب ، فلماذا أهدر قاعدة أساسية من قواعد الحرب ، وهي أن "الحرب خدعة" ، وأستجاب للقوى العظمى ، فوافق أن نتلقى الضربة الأولى ، بينما سلاحنا الجوي كله مكشوف على الأرض ؟ والعلم العسكري يقول : "إذا خسرت سلاحي الجوي ومطاراتي معا في الضربة الأولى ، فكيف يمكن أن أكمل الحرب بعد ذلك ، وأنتصر ؟
فكان علي أن أفعل ما أراه صواباً لمصلحة وطني ، حتى ولو خالف ذلك رأي القوى العظمى ، التي تبين بعد ذلك أنها تواطأت على خداعي ، وساعدت على هزيمتي .
ولا زلت أذكر صدمة التنحى تلك ، لأنني مثل أى مواطن عادى ، كنت أنظر للرئيس جمال رحمه الله ، كزعيم وقائد كبير ، أشعرنا إعلانه الاستقالة أن الموقف فى القوات المسلحة قد تأزم ، وتوجسنا أن تنحيه سيودي بنا للانهيار الكامل لا قدر الله ، كما أننا كنا في أمس الحاجة لعلاقاته بالكتلة الشرقية عموماً ، والاتحاد السوفيتى خصوصاً ، لأن كل مشتروات العسكرية من عندهم . مع إحساسنا أن أمريكا وإسرائيل لن تتوقفا عن محاولة ضرب مصر ، مثلما حدث في 48 ، ثم 56 ، ثم 67 أيضاً ، أي بمعدل حرب كل عشر سنوات تقريباً . ولذلك دعم الشعب كله عبدالناصر كقائد ، ورمز ، وقامة شامخة ، لا ينبغي أن تسقط في ذلك الوقت .
وعلى طريق مداواة آثار النكسة ، وإعادة بناء جيشنا وقوتنا ، أصابتنا صدمة جديدة بوفاة الرئيس جمال رحمه الله ، وحضرنا جنازته ، تغمرنا الأحزان مريرة لفقده ، خاصة وأن وفاته اقترنت بمصيبة أخرى هي أزمة الاقتتال بين الأشقاء الأردنيين والفلسطينيين في الأردن .
وأعود بالذكريات لكتيبتي بعد النكسة مباشرة ، حيث كان موقفها صعباً جداً ، وخاصة حين تبين أن السرية التابعة لها بالعريش ، بقوة 30 إلى 40 فرداً بضباطهم ، بما فيهم الملازم أول / جمال عقيلى ، والملازم / سيد ، والملازم / محمد الحسينى ، قد انتهت بكاملها ، ولم يعد منهم أحد ، وكانت الصدمة ثقيلة فعلاً .
للمزيد من التفاصيل يرجي مشاهدة شاهد علي هزيمة يونيو / الرائد محمد الحسيني - الجيل الاول لسلاح الحرب الالكترونية يصف ما حدث له خلال هزيمة يونيو 1967 - سلسلة حلقات رائعة عن فترة 67 وحتي الاستنزاف
1كنا نسمع كل شئ في اسرائيل أضغط للمشاهدة
2 حذرنا القيادة بإن الحرب غدا أضغط للمشاهدة
3رحلة الانسحاب المستحيلة سيرا علي الاقدام أضغط للمشاهدة
4 كنا نسمع لهوهم مع النساء في خط بارليف أضغط للمشاهدة
وفي صباح 5 يونيو ، كنا مجتمعين فى الطابور اليومي ، لأخذ تمام الكتيبة كالمعتاد - لغير المناوبين على الأجهزة - وكنت أنا الضابط رقم 02 في الكتيبة بعد قائدها المقدم / يسرى ، وكان قد تم تعيينه حديثا من القوات الجوية ، مثل معظم قادة الوحدات في سيناء وقتها . وكان باقى الكتيبة من الورش والشئون الإدارية . وبحكم أننى ضابط إشارة ، فكنت منشغلاً بأعمالي الإدارية الكثيرة ، وكان معي أحد المساعدين فى الخيمة ، فسمعنا فجأة أصوات الضرب ، فأمرته أن ينظر في الخارج ، ليخبرنى عما حدث ، ولكنه ما أن خرج حتى توالت أصوات الانفجارات ، ولم يرجع المساعد مرة أخرى ، فخرجت لأستطلع الخبر ، فإذا طائراتنا يتم ضربها على الأرض فى المطار ، والنيران مشتعلة فيها ، فعرفت أن الحرب قد بدأت ، رغم أني لم أكن لاحظت أي شوشرة ، أو أي شيئ غير عادي قبل الهجوم ، ربما لأنهم بدأوا التنفيذ مبكراً بعدما علموا بأن طائرة المشير في الجو ، وربما كانوا ينوون بدء الشوشرة بعد الهجوم مباشرة ، من السفينة الأمريكية . لكن بعد الهجوم لم تكن هناك حاجة للشوشرة أصلاً ، لأن معظم الأجهزة كانت قد ضربت وانتهى الأمر . وبعد ضرب الطائرات ، والممرات ، وجميع المنشآت ، لم تخرج أى طائرة من المطار ، ولم تعد هناك طائرات لتخرج أصلاً .
وشعرت وقتها كأن الدنيا قد أظلمت ، وأن ما يحدث هو تكرار لما حصل في 1956 م . وأدركت أنه إذا كان باقي سلاحنا الجوي قد تم تدميره مثل ما حصل عندنا في المليز ، فإن الأمل ضعيف فى توقف الحرب الآن . وبقيت خطوط اتصالنا مع القيادات معطلة حتى مساء يوم 06 يونيو . وكلما حاولنا إصلاح هوائيات الاتصال أو الرادار ، ضربها الصهاينة مرة أخرى ، فأُصبنا بخسائر عالية فى المعدات ، والأفراد كليهما . ولم نكن قد جهزنا ملاجيء لنا بعد ، معتبرين أن ذلك تحصيل حاصل ، وأن الحرب لن تقوم بتلك السرعة أصلاً .
وانقطعت جميع الاتصالات بالكامل ، وعلمنا ببدء انسحاب قواتنا ، فخرجنا فى اليوم الثالث مع قائد الكتيبة سيراً على الأقدام - بمبادرة منه - قاصدين الضفة الشرقية للقناة على بعد 60 كيلومتراً ، فى نفس اليوم ، محاولين الوصول إليها بأقصى سرعة وبأى وسيلة ، فتحركنا مع آخر ضوء - تحرزا من الغارات المعادية أثناء النهار - ونحن فى حالة انهيار ، لا نعلم أى نوع من الكوارث بانتظارنا ، وإلى أي مدىً سيصل العدو ، وفي الطريق ، رأيت عرباتنا وقد تم قصفها ، وعربات أخرى يتم قصفها أثناء مرورنا ، وعربات مقلوبة ، أو محطمة من حوادث التصادم بسبب السرعة الزائدة ، ووصلنا القناة في التاسعة مساء تقريباً ، وانتظرنا دورنا ، حتى عبرنا عند الثانية صباحاً تقريباً ، وكانت محنة شديدة للقوات المسلحة .
وبعد العبور ، توجهنا إلى قيادة المنطقة الشرقية ، وبقينا فيها يوما واحداً ، ثم تلقينا الأوامر بالالتحاق بوحداتنا في القاهرة . وفى معسكر الجلاء ، وجدنا القيادات كلها منهارة ، وجميع الوحدات تحاول الاتصال بقياداتها لتعرف الأخبار ، وتأخذ التعليمات ، ولكن لا توجد أى معلومات لدى أي أحد ، والقيادات العليا غائبة عن المشهد .
وفي يوم 09 يونيو ، كان صوت خطاب التنحي مسموعاً في إدارة الإشارة ، وهم مشغولين بالبحث عن أماكن لتوزيعنا . وكان لذلك تأثيراً صادماً علينا ، ورأينا الجماهير هائمة على وجهها فى الشوارع ، حيارى فيمن يمكن أن يتولى المسؤولية بعد عبدالناصر ؟ وما هو مصيرها ؟ ، وكنا كعسكريين نبتعد عن مناقشة المدنيين ، لأنهم ظنوا أن مقاتلي الجيش تخاذلوا ، وفروا من المعركة ، وصاروا بذلك مسؤولين عن الهزيمة ، مع أن الحقيقة أن كل فرد فى الجيش كان يقوم بدوره في موقعه ، بينما القيادات العليا أخلت بالأمانة .
بعد رجوعي للمنزل ، ظل الصمت هو سيد الموقف ، وأعطتهم رؤيتهم لي - سليماً معافى - شيئاً من العزاء ، لكن الصورة العامة لوضع البلد ككل كانت مظلمة ، ورأيت السؤال الحائر في أعينهم : "كيف تكون فى البيت بعد 03 أيام فقط من بدء الحرب !!؟" ، فكانت المرارة شديدة ، وظللت مختبئاً طوال فترة وجودي هناك ، لا أقابل أحداً ، وتصيبني حالة هيستريا ، كلما سمعت أى صوت مرتفع ، من هول ما رأيت وسمعت في الأيام الثلاثة التي حضرتها على الجبهة قبل عودتي ، وأثناءها .
وفي يوم 13 يوليو 1967 م ، تم توزيعى على كتيبة الاستطلاع اللاسلكى بالمعادى مرة أخرى ، بسبب مؤهلاتي ، وسمعت من زملائى هناك ، أنه كان هناك حشد ظاهر للعدو قبل الحرب ، وشاركوني الظن أن القيادات لم تأخذ ذلك على محمل الجد ، وأفرط بعضهم في الثقة الزائدة بالنفس ، فنتج عن ذلك إحساس كاذب أن الحرب ستكون تظاهرية ، ثم تنسحب إسرائيل كما حصل عام 1960 م . ولكن وجهة نظر العدو كانت مختلفة . وأتصور أن الخطأ كان من القيادتين العسكرية والسياسية ، من حيث اندفع الرئيس عبدالناصر رحمه الله لتصعيد الأمور ، استناداً على تأكيد المشير له أنه مستعد للحرب - بخلاف الحقيقة - ومتجاهلاً تقارير مخابراته بذلك . ولكن حتى لو فرضنا أن المشير كان على صواب ، فلماذا أهدر قاعدة أساسية من قواعد الحرب ، وهي أن "الحرب خدعة" ، وأستجاب للقوى العظمى ، فوافق أن نتلقى الضربة الأولى ، بينما سلاحنا الجوي كله مكشوف على الأرض ؟ والعلم العسكري يقول : "إذا خسرت سلاحي الجوي ومطاراتي معا في الضربة الأولى ، فكيف يمكن أن أكمل الحرب بعد ذلك ، وأنتصر ؟
فكان علي أن أفعل ما أراه صواباً لمصلحة وطني ، حتى ولو خالف ذلك رأي القوى العظمى ، التي تبين بعد ذلك أنها تواطأت على خداعي ، وساعدت على هزيمتي .
ولا زلت أذكر صدمة التنحى تلك ، لأنني مثل أى مواطن عادى ، كنت أنظر للرئيس جمال رحمه الله ، كزعيم وقائد كبير ، أشعرنا إعلانه الاستقالة أن الموقف فى القوات المسلحة قد تأزم ، وتوجسنا أن تنحيه سيودي بنا للانهيار الكامل لا قدر الله ، كما أننا كنا في أمس الحاجة لعلاقاته بالكتلة الشرقية عموماً ، والاتحاد السوفيتى خصوصاً ، لأن كل مشتروات العسكرية من عندهم . مع إحساسنا أن أمريكا وإسرائيل لن تتوقفا عن محاولة ضرب مصر ، مثلما حدث في 48 ، ثم 56 ، ثم 67 أيضاً ، أي بمعدل حرب كل عشر سنوات تقريباً . ولذلك دعم الشعب كله عبدالناصر كقائد ، ورمز ، وقامة شامخة ، لا ينبغي أن تسقط في ذلك الوقت .
وعلى طريق مداواة آثار النكسة ، وإعادة بناء جيشنا وقوتنا ، أصابتنا صدمة جديدة بوفاة الرئيس جمال رحمه الله ، وحضرنا جنازته ، تغمرنا الأحزان مريرة لفقده ، خاصة وأن وفاته اقترنت بمصيبة أخرى هي أزمة الاقتتال بين الأشقاء الأردنيين والفلسطينيين في الأردن .
وأعود بالذكريات لكتيبتي بعد النكسة مباشرة ، حيث كان موقفها صعباً جداً ، وخاصة حين تبين أن السرية التابعة لها بالعريش ، بقوة 30 إلى 40 فرداً بضباطهم ، بما فيهم الملازم أول / جمال عقيلى ، والملازم / سيد ، والملازم / محمد الحسينى ، قد انتهت بكاملها ، ولم يعد منهم أحد ، وكانت الصدمة ثقيلة فعلاً .
للمزيد من التفاصيل يرجي مشاهدة شاهد علي هزيمة يونيو / الرائد محمد الحسيني - الجيل الاول لسلاح الحرب الالكترونية يصف ما حدث له خلال هزيمة يونيو 1967 - سلسلة حلقات رائعة عن فترة 67 وحتي الاستنزاف
1كنا نسمع كل شئ في اسرائيل أضغط للمشاهدة
2 حذرنا القيادة بإن الحرب غدا أضغط للمشاهدة
3رحلة الانسحاب المستحيلة سيرا علي الاقدام أضغط للمشاهدة
4 كنا نسمع لهوهم مع النساء في خط بارليف أضغط للمشاهدة
- ·عودة الوعي :
بدأ الجيش كله في النهوض والاستفاقة من النكسة ، محاولاً نسيان الماضي ، وفتح صفحة جديدة بأسرع ما يمكن ، استعداداً لما هو آتِ لا محالة بإذن الله ، من تحرير الأرض ، واستعادة الكرامة .
واستأنفنا العمل ، وقد تعلمنا من النكسة أن نركز على المعلومات الأَوْلَى بالتحصيل قدر ما نستطيع . وكانت الوحدة محتاجة لإمكانيات كى تستعيد القيام بدورها مجدداً ، وظهرت عندنا مشكلة فى كلٍ من استعواض الأفراد ، والتنظيم ، والمعدات . وهى المتطلبات الطبيعية لأي سلاح للوقوف من جديد وبدء العمل . لكنّ أمرنا كان أكثر صعوبة ، لاحتياجنا لأفراد يجيدون العبرية .
ولمّا كان دورنا في التصنت يعتمد على أجهزة الاستقبال فقط ، وهي تعمل بأطقم عددها أقل مما تحتاجه أجهزة الإرسال والاستقبال معاً . فكنا إذا طلبنا زيادة عدد أفراد الوحدة لملاحقة زيادة عدد الأجهزة ، يستغربون ذلك ، ويقولون "إنتم شغالين استقبال بَسّ (فقط) !!" ، فنضطر لتشغيل كل جهازين بطاقم واحد من ثلاثة أفراد . أما عن الأجهزة نفسها ، فكانت شبه محرمة في أسواق السلاح العالمية ، أن تصل إلى دول مثل مصر . فتعبنا جداً خلال فترة التجهيز لحرب التحرير رمضان / أكتوبر المجيدة ، وفي إعداد جيل يجيد العبرية ، خاصة ونحن نتبع إدارة المخابرات الحربية والاستطلاع من جهة ، وإدارة الإشارة من جهة أخرى . وكنا حين نكتشف أن شبكة من شبكات العدو قد انقسمت إلى شبكتين أو أكثر ، نبدأ في الشرح لهم لماذا نحتاج لأفراد إضافيين ، وأجهزة جديدة . وظللنا نعاني من تلك الازدواجية ، من التبعية عملياتياً ( تكتيكياً ) للمخابرات الحربية ، وإدارياً لسلاح الإشارة ، حتى عام 1970 م -1971 م ، حين تم ضمنا إدارياً كذلك إلى المخابرات الحربية والاستطلاع .
لم يكن قد بقي لدينا في الكتيبة بعد النكسة سوى مترجمين اثنين ، فكان لزاماً علينا تعويض الفاقد ، وكانت كليّتا آداب القاهرة ، وعين شمس ، هما فقط اللتان تحويان قسماً للغة العبرية . فحصلنا من قسمي "التسجيل" بالكليتين على عناوين الخريجين ، وأرسلنا إليهم مندوبينا في منازلهم يحفزنوهم على التعاقد معنا مباشرة ، للعمل فى وحدات التصنت ، أو على الأقل تدريس اللغة العبرية لرجالنا الجدد . وكانت إدارة المخابرات الحربية تعطى شهادة للفرد الذي يجتاز الدورة بنجاح ، ومكافأه حوالي 50 قرشاً أو جنيهاً كاملاً . وفكرت أن أستفيد من هؤلاء المدرسين - خلال فترات تدريسهم لرجالي الجدد - في العمل كمستمعين مشاركين مع رجالي القدامى في الكتيبة ، ووافقت المخابرت على ذلك . حتى وصلت قوة الكتيبة إلى أربعمائة فرد .
ومع نهاية شهر يونية 1967 م ، بعد النكسة مباشرة ، كنا قد فكرنا في إنشاء مركز تصنت جديد فى السويس ، لكونها في منتصف خط الجبهة بين بورسعيد ، وشرم الشيخ . وفكر قائد الكتيبة المقدم / اسماعيل شوقى أن يسند إلىّ قيادة المركـز الجديد . فذهبنا سوياً لاستطلاع المنطقة ، ووجدنا على الشاطىء عند مرسى المعـدِيّات ( سفن مسطحة للعبور بالناس والسيارات ذهاباً وإياباً بين ضفتي القناة ) غرفة مكتب مخصصة لموظفي الجمارك ، فرأى قائدي أنها تفي بالغرض ، وكنت أنا أرى أنها لا تصلح ، لكونها ظاهرة بوضوح على الشاطىء ، وفى مرمى نيران العدو بأبسط بندقية لديهم . كما أن أجهزتنا وهوائياتنا كبيرة يصعب إخفاؤها فيها . لكنى لم أعارضه ، لكيلا يظن بيَ الجُبن . ويشاء الله تعالى حين رجعت بعدها بيومين إلى الموقع مع ضابط زميل ، مصطحبين تجهيزاتنا ، وبدأنا في تنزيلها ، أن يمرَّ بنا المقدم / أحمد بدوى - الفريق / أحمد بدوي فيما بعد - رئيس عمليات الفرقة السابعة حينئذ ، والتي تقع الغرفة في نطاق عملها . فسأل رجاله عنا ، ثم جاء إلينا ، وتعارفنا ، ثم سألنى بغضب عن سبب وجودنا في ذلك المكان ، فأخبرته ، فتعجب من ذلك ، وقال: "أنا ذاهب إلى السويس لمدة ساعة ، وعند عودتى ، لا أريد أن أراكم هنا " ، فوافقت طبعا على الفور ، ثم توجهت بسيارتي العسكرية إلى مكتب مخابرات السويس ، حيث قابلت المقدم / أحمد حلمى ، الذي استمع لقصتي ، ثم أمرنى أن أجد مكاناً مناسباً غير الذي رفض المقدم / بدوي الموافقة عليه . فرجعت لاستكشاف المنطقة ، وما هو إلى وقت قليل ، حتى وجدنا فعلاً مكانا آخر ، على بعد كيلو متر واحد من المكان الأول ، وعبارة عن فيلا مهجورة ذات طابقين ، أمامها وحدة صحية . فدخلناها ونصبنا أجهزتنا بداخلها ، وبدأنا العمل ، وبقينا فيها ما يقرب من ثلاثة أعوام ، لم يلحظنا أحد . وعملت مع زملائي فيها أربعة أشهر تقريباً ، حتى استقرت أمورها ، ثم رجعت إلى مقر الكتيبة . وكانت تلك هى بداية إنشاء نقاط الاستطلاع الإليكترونى المتقدمة ، على طول خط الجبهة .
مع بداية يوليو 1967 م ، كانت الروح قد عادت من جديد لقواتنا المسلحة ، وتم استكمال التشكيلات ، إما بأفراد جدد ، أو بالمصابين والمفقودين بعد عودتهم للخدمة ، وذلك للقيام بمهام دفاعية كمرحلة أولى .
وبدأنا نتنصت على العدو ، وكان التصنت هو الوسيلة الوحيدة المتاحة وقتها ، لجمع معلومات دقيقة عن تحركاتهم على الجبهة أولاً بأول . وكان العدو إبان ذلك منهمكاً في إنشاء مواقع دفاعية ، لتثبيت أقدامه في أرضنا . وبدأنا نسمع تخاطَبهم في اللاسلكي بدون تكويد ( شفرة ) ، فعرفنا أسماء القادة ، وأسماء معاونيهم ، وأماكن تمركز وحداتهم . وبالتدريج ، تكونت لدينا صورة واضحة لقوات العدو على أرض سيناء الحبيبة .
وكان العدو - خلال ذلك - مجتهدا في مراقبتنا أيضا ، من نقاط ملاحظة على طول الجبهة . لكن قدرتنا على التجسس عليهم كانت أكبر ، وممتدة بعمق ثلاثين كيلومتراً خلف خط القناة ، وخمسين عند صفاء الجو .
وبالنسبة للخبراء السوفييت ، فأستطيع القول أننا استفدنا منهم جداً في الحقيقة ، وكان عملي وقتها فى تحليل المعلومات البرية ، أحد الفروع الثلاثة للمعلومات ، وكان عندنا خبيران فى الفوج أحدهما فنى متخصص فى إصلاح الأجهزة والآخر تكتيكي متخصص في تقنات الاستطلاع ، وكان معهما مترجم ، فكانو متعاونين جداً ، وعلّمونا كيفية جمع المعلومات وتحليلها لاستخلاص النتائج منها ، وكيفية تحديد الاتجاهات ، وكانت التعليمات أن نتعامل معهم بشفافية ، وبشكل مفتوح .
وبدأنا في إنشاء مراكز تصنت جديدة ، بطول خط الجبهة ، جهتي اليمين واليسار ، من الغردقة إلى بورسعيد ، لنغطى مجالاً أوسع . وقمنا بتحريك جهاز تحديد الاتجاه لدينا أكثر من مرة ، لتحديد مصادر إشاراتهم بدقة أكثر . وكنا نشعر بسعادة ورضا غامرين ، بقدرتنا على استخلاص ذلك القدر الهائل من المعلومات التفصيلية أولا بأول عن العدو .
ثم بدأت اشتباكات حرب الاستنزاف ، فكنا نسمع مثلاً : "اضرب هدف كذا" ، فنبلغ ذلك فوراً لقيادة الكتيبة ، والكتيبة تنقل ذلك بدورها إلى قيادة القوات الجوية ، أو البحرية أو المخابرات ، حسب الأحوال ، عبر خطوط اتصال مباشرة ، لا تستدعي وقتاً في التحويل . وكانت وحدات جيشنا ، تنتظر منا كل معلومة متاحة عن تحركات العدو ، لاتخاذ الإجراءات المناسبة ، بشكل مُحكَم وفوري .
وأذكر أننا كنا نستطيع سماع اتصالات العدو في العريش وبئر العبد ، من بورسعيد ، وكان لدينا أجهزة بعينها مخصصة لشبكات قواتهم الجوية ، فكنا نسمع الطيار يقول مثلاً : "أنا فوق القنطرة" ، أو " أنا فوق المليز" ، وكانت تلك المعلومات جيدة لقواتنا الجوية ، وتعلمنا منها كيفية تمييز أنواع الطائرات حسب سرعاتها في الوصول من نقطة لأخرى ، أو حين يصرح الطيار نفسه في اللاسلكي : " الفانتوم الخاصة بي فيها كذا" ، ولم يكن العدو متخيلاً أننا عُدنا بتلك السرعة ، وأننا نستمع إليهم كأننا معهم . وعند قيام أبطالنا بضربات جوية عليهم ، أو عمليات على الأرض في سيناء ، كنا نسمع بلاغاتهم بأعداد قتلاهم ومصابيهم بعد كل عملية ، فكنا نحن المصدر الأساسى لقواتنا ، لتأكيد خسائرهم . وسمعناهم في حرب رمضان / أكتوبر 1973 م بوضوح ، وهم يصرخون محذرين طياريهم ، من الاقتراب أكثر من مسافة 15 كيلومتراً شرق القناة .
أذكر أيضاً أن رئيس فرنسا / شارل ديجول كان قد هدد قبل النكسة ، إنه لن يتم بيع الأسلحة الفرنسية لأي طرف يكون هو البادئ بالحرب ، ومنع البيع فعلا لإسرائيل بعد النكسة ، وكانت الصهاينة قد تعاقدوا معهم قبلها على سبعة زوراق دورية ، وظلت تلك الزوارق محجوزة في أحد موانئ فرنسا ، حتى سرقها الصهاينة من هناك ، وتوجهوا بها عائدين إلى فلسطين المحتلة ، وكنا نحن نرصد اتصالاتهم أثناء تحركهم ، ونبلغ بها مخابراتنا أولاً بأول .
وحين أغرقت قواتنا البحرية الغواصة داكار في يناير 1978 م على حافة مياهنا الإقليمية ، رصدنا ضربها ، وبلاغاتهم بالخسائر ، ومحاولتهم الاستطلاع فوقها بالطائرات لانتشال الناجين من طاقمها ، لأنها ضُربت وهى طافية فوق سطح البحر . ولكنهم أخفوا الخبر ، ولم يفصحوا عنه إلا مضطرين بعد توقيع اتفاقية السلام ، لطلب مساعدتنا في انتشال ما قد يمكن العثور عليه من بقايا رفات قتلاهم ، وأجزاء الحطام
أذكر أيضاً أن طائرات العدو يوم أغارت على أبي زعبل ، أبلغنا نحن عن المطارات التي يجري الاستعداد فيها لذلك . وتعلمنا بالخبرة أن موقع كذا يتراوح معدل إشاراته بين عشرين وثلاثين إشارة يوميا مثلا ، فإذا ارتفع المعدل إلى مائة إشارة في أحد الأيام ، فهمنا أن هنالك شيئاً غيرُ عادي - حتى لو كانوا يتعاملون بالشفرة - فنركز عليه أكثر ، وتكون لدينا فرصة أكبرلإنذار وحداتنا المستهدفة ، عن طريق قيادتنا بالمخابرات الحربية . وكانت قيادتنا لا تعطينا إفادة عكسية Feed back عن نتائج بلاغاتنا ، ربما للحفاظ على السرية . وربما لو كان أتيح لنا أن نعرف تأثير بلاغاتنا ، لكنا سنصبح أكثر رضاً ، وسعادة بنتائج عملنا .
كنا أيضاً في الحالات التي تقوم قواتنا فيها بغارات أو كمائن خلف خطوط العدو ، وتعود بأسير أو اثنين ، نرسل لهم رجالاً من أبطالنا للتنسيق معهم قبل الخروج للعملية ، بغرض تحقيق الاتصال بينا وبين غرف عملياتهم ، وتزويدهم لحظيا أثناء العملية ، بما نحصل عليه من معلومات ، قد تكون مفيدة لهم . وقد ساعدنا في كثير من المرات ، أن تتم العمليات بأقل خسائر ، بأن نخبرهم أن دبابات العدو في منطقة كذا مثلاً ، قد بدأت في التحرك باتجاههم ، وأصبحوا على مسافة كذا منهم ، فينسحبون في الوقت المناسب ، حتى لو لم تكتمل جميع مهام العملية . وكان رؤساء وحدات الاستطلاع يمرون عندنا باستمرار ، لمعرفة المواعيد السارية وقتها لدوريات العدو ، فيتمكنون من حساب التوقيتات المناسبة لتنفيذ عملياتهم .
ومع حلول منتصف عام 1969 م ، كنا قد أكملنا الإقفال على جميع شبكات الاتصال في فلسطين المحتلة ، بعد إضافة العديد من مراكز التصنت الجديدة . ومع الخبرة ، أصبحنا ننتخب أهم الشبكات لدى العدو ، فنكلف بطلاً واحداً بمتابعة ترددين أو أكثر فى وقت واحد ، وفى بعض الأوقات تكون الشبكة صامتة ، فيتابع شبكة ثالثة نشطة حتى تعود الأولى للعمل . فكان أغلب رجالنا أمامه جهازان أو أكثر ، يتم ضبط كل منها على الترددات المهمة وقتها . وذلك لتعويض نقص إمكانيتنا أمام تعدد شبكات العدو . وقد نستخدم أجهزة إضافية - إذا توفرت - للترددات الأقل أهمية.
وكان العدو يحاول تضليلنا ، بأن يعمل على شبكة معينة شهراً ، ثم يغير ترددها . وأحيانا يغير التردد كل خمسة عشر يوماً ، أو حتى كل أسبوع . أما الشبكات المهمة جداً ، فكانت تغير ترددها كل يوم تقريبا . لكن من متابعتنا لهم بتركيز شديد ، يكتسب كل واحد من أبطال التصنت ، خبرة ثمينة بشبكة معينة أو أكثر ، سواءً من نبرات صوت أحد مستعمليها ، أو من لغة مميزة لدى أحدهم ، أو من لازمة كلامية يستعملها باستمرار مثلاً ، فيتمكن من تمييز الشبكة ، وإمساكها مرة أخرى بسرعة وسهولة ، حال تجوله بين الموجات . وكانت هناك كتائب زميلة ، قائمة بالإعاقة والشوشرة على اتصالات العدو ، بالتوازي والتنسيق معنا . وكان أحد الزملاء من مندوبيهم مقيماً معنا بشكل دائم ، لتحديث قـيم الترددات لشبكات العدو ، وإبلاغها لباقي زملائه أولاً بأول .
وأذكر أنه جاءتنا تعليمات ، عند اغتيال الشهيد / عبد المنعم رياض رئيس أركان القوات الملسحة أثناء ذلك رحمه الله ، بالتصنت على شبكة قوات حفظ السلام الدولية ، لأنهم كانوا يستعملون نقاط ملاحظة خاصة بهم ، للإبلاغ إذا قام أحدُ الطرفين بانتهاك وقف إطلاق النار ، وما شابه ، وكان لدى القيادة شكٌ أنهم هم الذين أبلغوا الصهاينة بوجود قيادة كبيرة فى المنطقة . وفعلا أحضرنا أجهزة مماثلة للتى يعملون عليها ، وكانت بالنسبة لنا نوعية جديدة لم نرها من قبل ، ولكن عرفنا تالياً أنها مشابهة للمستخدمة لدى قواتنا الجوية ، وبدأنا المتابعة لشبكاتهم .
ومن الجدير بالذكر ، أن التعاون كان قائماً بيننا وبين الأشقاء في الأردن ، لأنهم قريبين من إيلات ، ومع الأشقاء في سوريا ، لأنهم قريبين من حيفا . فكانوا يضيفون لمعلوماتنا عن العدو . وإذا أفلت منا تردد معين لبحرية العدو مثلاً ، سألناهم عن القطعة التى غادرت ميناء كذا فى ساعة كذا ، فيخبروننا ، فنستطيع بتجميع المعلومات معاً ، إمساك الشبكة الهاربة .
ومن فضل الله علينا ، أن بعض أبطالنا ظلوا يعملون معي من قبل 1967 م ، حتى 1973 م . فتجمعت لدينا خبرات تراكمية وفيرة بحمد الله . وكان حملة ليسانس الآداب يأتون إلينا ضمن الخدمة الإلزامية أحياناً كجنود ، وأحيانا أخرى كضباط احتياط ، وعلى درجة عالية جداً من الكفاءة والجَلَد . فكنت أنا أتعب وأحتاج للراحة ولو ساعة أو نصف ساعة ، بينما كانوا هم لا يتعبون أبدا - بعون من الله بالتأكيد - ويستمرون في العمل بشكل متواصل . ورغم أنهم كانوا أسرع استيعاباً ، وأكثر كفاءة فى حصر الشبكات ، وعمل الإحصائيات لما يتابعونه ، إلا أن المجندين منهم كضباط احتياط ، كان يعملون معنا لعامين ، أما من يأتون منهم كجنود فيبقون معنا عاماً واحدً فقط - وفق نظام التجنيد - ثم يتركوننا عائدين إلى الحياة المدنية ، وقد رعتهم الدولة وفقها الله بعد الحرب ، فتم توظيفهم فى هيئة الإذاعة المصرية ، على كادر ضباط احتياط . ومازلت على اتصال بهم إلى الآن .
أما حملة المؤهلات المتوسطة ، فكنت أفرح بقدومهم أيضاً ، رغم أنهم ليسوا بنفس الجاهزية ، لأنهم يستمرون معنا عامين أيضاً .
واستأنفنا العمل ، وقد تعلمنا من النكسة أن نركز على المعلومات الأَوْلَى بالتحصيل قدر ما نستطيع . وكانت الوحدة محتاجة لإمكانيات كى تستعيد القيام بدورها مجدداً ، وظهرت عندنا مشكلة فى كلٍ من استعواض الأفراد ، والتنظيم ، والمعدات . وهى المتطلبات الطبيعية لأي سلاح للوقوف من جديد وبدء العمل . لكنّ أمرنا كان أكثر صعوبة ، لاحتياجنا لأفراد يجيدون العبرية .
ولمّا كان دورنا في التصنت يعتمد على أجهزة الاستقبال فقط ، وهي تعمل بأطقم عددها أقل مما تحتاجه أجهزة الإرسال والاستقبال معاً . فكنا إذا طلبنا زيادة عدد أفراد الوحدة لملاحقة زيادة عدد الأجهزة ، يستغربون ذلك ، ويقولون "إنتم شغالين استقبال بَسّ (فقط) !!" ، فنضطر لتشغيل كل جهازين بطاقم واحد من ثلاثة أفراد . أما عن الأجهزة نفسها ، فكانت شبه محرمة في أسواق السلاح العالمية ، أن تصل إلى دول مثل مصر . فتعبنا جداً خلال فترة التجهيز لحرب التحرير رمضان / أكتوبر المجيدة ، وفي إعداد جيل يجيد العبرية ، خاصة ونحن نتبع إدارة المخابرات الحربية والاستطلاع من جهة ، وإدارة الإشارة من جهة أخرى . وكنا حين نكتشف أن شبكة من شبكات العدو قد انقسمت إلى شبكتين أو أكثر ، نبدأ في الشرح لهم لماذا نحتاج لأفراد إضافيين ، وأجهزة جديدة . وظللنا نعاني من تلك الازدواجية ، من التبعية عملياتياً ( تكتيكياً ) للمخابرات الحربية ، وإدارياً لسلاح الإشارة ، حتى عام 1970 م -1971 م ، حين تم ضمنا إدارياً كذلك إلى المخابرات الحربية والاستطلاع .
لم يكن قد بقي لدينا في الكتيبة بعد النكسة سوى مترجمين اثنين ، فكان لزاماً علينا تعويض الفاقد ، وكانت كليّتا آداب القاهرة ، وعين شمس ، هما فقط اللتان تحويان قسماً للغة العبرية . فحصلنا من قسمي "التسجيل" بالكليتين على عناوين الخريجين ، وأرسلنا إليهم مندوبينا في منازلهم يحفزنوهم على التعاقد معنا مباشرة ، للعمل فى وحدات التصنت ، أو على الأقل تدريس اللغة العبرية لرجالنا الجدد . وكانت إدارة المخابرات الحربية تعطى شهادة للفرد الذي يجتاز الدورة بنجاح ، ومكافأه حوالي 50 قرشاً أو جنيهاً كاملاً . وفكرت أن أستفيد من هؤلاء المدرسين - خلال فترات تدريسهم لرجالي الجدد - في العمل كمستمعين مشاركين مع رجالي القدامى في الكتيبة ، ووافقت المخابرت على ذلك . حتى وصلت قوة الكتيبة إلى أربعمائة فرد .
ومع نهاية شهر يونية 1967 م ، بعد النكسة مباشرة ، كنا قد فكرنا في إنشاء مركز تصنت جديد فى السويس ، لكونها في منتصف خط الجبهة بين بورسعيد ، وشرم الشيخ . وفكر قائد الكتيبة المقدم / اسماعيل شوقى أن يسند إلىّ قيادة المركـز الجديد . فذهبنا سوياً لاستطلاع المنطقة ، ووجدنا على الشاطىء عند مرسى المعـدِيّات ( سفن مسطحة للعبور بالناس والسيارات ذهاباً وإياباً بين ضفتي القناة ) غرفة مكتب مخصصة لموظفي الجمارك ، فرأى قائدي أنها تفي بالغرض ، وكنت أنا أرى أنها لا تصلح ، لكونها ظاهرة بوضوح على الشاطىء ، وفى مرمى نيران العدو بأبسط بندقية لديهم . كما أن أجهزتنا وهوائياتنا كبيرة يصعب إخفاؤها فيها . لكنى لم أعارضه ، لكيلا يظن بيَ الجُبن . ويشاء الله تعالى حين رجعت بعدها بيومين إلى الموقع مع ضابط زميل ، مصطحبين تجهيزاتنا ، وبدأنا في تنزيلها ، أن يمرَّ بنا المقدم / أحمد بدوى - الفريق / أحمد بدوي فيما بعد - رئيس عمليات الفرقة السابعة حينئذ ، والتي تقع الغرفة في نطاق عملها . فسأل رجاله عنا ، ثم جاء إلينا ، وتعارفنا ، ثم سألنى بغضب عن سبب وجودنا في ذلك المكان ، فأخبرته ، فتعجب من ذلك ، وقال: "أنا ذاهب إلى السويس لمدة ساعة ، وعند عودتى ، لا أريد أن أراكم هنا " ، فوافقت طبعا على الفور ، ثم توجهت بسيارتي العسكرية إلى مكتب مخابرات السويس ، حيث قابلت المقدم / أحمد حلمى ، الذي استمع لقصتي ، ثم أمرنى أن أجد مكاناً مناسباً غير الذي رفض المقدم / بدوي الموافقة عليه . فرجعت لاستكشاف المنطقة ، وما هو إلى وقت قليل ، حتى وجدنا فعلاً مكانا آخر ، على بعد كيلو متر واحد من المكان الأول ، وعبارة عن فيلا مهجورة ذات طابقين ، أمامها وحدة صحية . فدخلناها ونصبنا أجهزتنا بداخلها ، وبدأنا العمل ، وبقينا فيها ما يقرب من ثلاثة أعوام ، لم يلحظنا أحد . وعملت مع زملائي فيها أربعة أشهر تقريباً ، حتى استقرت أمورها ، ثم رجعت إلى مقر الكتيبة . وكانت تلك هى بداية إنشاء نقاط الاستطلاع الإليكترونى المتقدمة ، على طول خط الجبهة .
مع بداية يوليو 1967 م ، كانت الروح قد عادت من جديد لقواتنا المسلحة ، وتم استكمال التشكيلات ، إما بأفراد جدد ، أو بالمصابين والمفقودين بعد عودتهم للخدمة ، وذلك للقيام بمهام دفاعية كمرحلة أولى .
وبدأنا نتنصت على العدو ، وكان التصنت هو الوسيلة الوحيدة المتاحة وقتها ، لجمع معلومات دقيقة عن تحركاتهم على الجبهة أولاً بأول . وكان العدو إبان ذلك منهمكاً في إنشاء مواقع دفاعية ، لتثبيت أقدامه في أرضنا . وبدأنا نسمع تخاطَبهم في اللاسلكي بدون تكويد ( شفرة ) ، فعرفنا أسماء القادة ، وأسماء معاونيهم ، وأماكن تمركز وحداتهم . وبالتدريج ، تكونت لدينا صورة واضحة لقوات العدو على أرض سيناء الحبيبة .
وكان العدو - خلال ذلك - مجتهدا في مراقبتنا أيضا ، من نقاط ملاحظة على طول الجبهة . لكن قدرتنا على التجسس عليهم كانت أكبر ، وممتدة بعمق ثلاثين كيلومتراً خلف خط القناة ، وخمسين عند صفاء الجو .
وبالنسبة للخبراء السوفييت ، فأستطيع القول أننا استفدنا منهم جداً في الحقيقة ، وكان عملي وقتها فى تحليل المعلومات البرية ، أحد الفروع الثلاثة للمعلومات ، وكان عندنا خبيران فى الفوج أحدهما فنى متخصص فى إصلاح الأجهزة والآخر تكتيكي متخصص في تقنات الاستطلاع ، وكان معهما مترجم ، فكانو متعاونين جداً ، وعلّمونا كيفية جمع المعلومات وتحليلها لاستخلاص النتائج منها ، وكيفية تحديد الاتجاهات ، وكانت التعليمات أن نتعامل معهم بشفافية ، وبشكل مفتوح .
وبدأنا في إنشاء مراكز تصنت جديدة ، بطول خط الجبهة ، جهتي اليمين واليسار ، من الغردقة إلى بورسعيد ، لنغطى مجالاً أوسع . وقمنا بتحريك جهاز تحديد الاتجاه لدينا أكثر من مرة ، لتحديد مصادر إشاراتهم بدقة أكثر . وكنا نشعر بسعادة ورضا غامرين ، بقدرتنا على استخلاص ذلك القدر الهائل من المعلومات التفصيلية أولا بأول عن العدو .
ثم بدأت اشتباكات حرب الاستنزاف ، فكنا نسمع مثلاً : "اضرب هدف كذا" ، فنبلغ ذلك فوراً لقيادة الكتيبة ، والكتيبة تنقل ذلك بدورها إلى قيادة القوات الجوية ، أو البحرية أو المخابرات ، حسب الأحوال ، عبر خطوط اتصال مباشرة ، لا تستدعي وقتاً في التحويل . وكانت وحدات جيشنا ، تنتظر منا كل معلومة متاحة عن تحركات العدو ، لاتخاذ الإجراءات المناسبة ، بشكل مُحكَم وفوري .
وأذكر أننا كنا نستطيع سماع اتصالات العدو في العريش وبئر العبد ، من بورسعيد ، وكان لدينا أجهزة بعينها مخصصة لشبكات قواتهم الجوية ، فكنا نسمع الطيار يقول مثلاً : "أنا فوق القنطرة" ، أو " أنا فوق المليز" ، وكانت تلك المعلومات جيدة لقواتنا الجوية ، وتعلمنا منها كيفية تمييز أنواع الطائرات حسب سرعاتها في الوصول من نقطة لأخرى ، أو حين يصرح الطيار نفسه في اللاسلكي : " الفانتوم الخاصة بي فيها كذا" ، ولم يكن العدو متخيلاً أننا عُدنا بتلك السرعة ، وأننا نستمع إليهم كأننا معهم . وعند قيام أبطالنا بضربات جوية عليهم ، أو عمليات على الأرض في سيناء ، كنا نسمع بلاغاتهم بأعداد قتلاهم ومصابيهم بعد كل عملية ، فكنا نحن المصدر الأساسى لقواتنا ، لتأكيد خسائرهم . وسمعناهم في حرب رمضان / أكتوبر 1973 م بوضوح ، وهم يصرخون محذرين طياريهم ، من الاقتراب أكثر من مسافة 15 كيلومتراً شرق القناة .
أذكر أيضاً أن رئيس فرنسا / شارل ديجول كان قد هدد قبل النكسة ، إنه لن يتم بيع الأسلحة الفرنسية لأي طرف يكون هو البادئ بالحرب ، ومنع البيع فعلا لإسرائيل بعد النكسة ، وكانت الصهاينة قد تعاقدوا معهم قبلها على سبعة زوراق دورية ، وظلت تلك الزوارق محجوزة في أحد موانئ فرنسا ، حتى سرقها الصهاينة من هناك ، وتوجهوا بها عائدين إلى فلسطين المحتلة ، وكنا نحن نرصد اتصالاتهم أثناء تحركهم ، ونبلغ بها مخابراتنا أولاً بأول .
وحين أغرقت قواتنا البحرية الغواصة داكار في يناير 1978 م على حافة مياهنا الإقليمية ، رصدنا ضربها ، وبلاغاتهم بالخسائر ، ومحاولتهم الاستطلاع فوقها بالطائرات لانتشال الناجين من طاقمها ، لأنها ضُربت وهى طافية فوق سطح البحر . ولكنهم أخفوا الخبر ، ولم يفصحوا عنه إلا مضطرين بعد توقيع اتفاقية السلام ، لطلب مساعدتنا في انتشال ما قد يمكن العثور عليه من بقايا رفات قتلاهم ، وأجزاء الحطام
أذكر أيضاً أن طائرات العدو يوم أغارت على أبي زعبل ، أبلغنا نحن عن المطارات التي يجري الاستعداد فيها لذلك . وتعلمنا بالخبرة أن موقع كذا يتراوح معدل إشاراته بين عشرين وثلاثين إشارة يوميا مثلا ، فإذا ارتفع المعدل إلى مائة إشارة في أحد الأيام ، فهمنا أن هنالك شيئاً غيرُ عادي - حتى لو كانوا يتعاملون بالشفرة - فنركز عليه أكثر ، وتكون لدينا فرصة أكبرلإنذار وحداتنا المستهدفة ، عن طريق قيادتنا بالمخابرات الحربية . وكانت قيادتنا لا تعطينا إفادة عكسية Feed back عن نتائج بلاغاتنا ، ربما للحفاظ على السرية . وربما لو كان أتيح لنا أن نعرف تأثير بلاغاتنا ، لكنا سنصبح أكثر رضاً ، وسعادة بنتائج عملنا .
كنا أيضاً في الحالات التي تقوم قواتنا فيها بغارات أو كمائن خلف خطوط العدو ، وتعود بأسير أو اثنين ، نرسل لهم رجالاً من أبطالنا للتنسيق معهم قبل الخروج للعملية ، بغرض تحقيق الاتصال بينا وبين غرف عملياتهم ، وتزويدهم لحظيا أثناء العملية ، بما نحصل عليه من معلومات ، قد تكون مفيدة لهم . وقد ساعدنا في كثير من المرات ، أن تتم العمليات بأقل خسائر ، بأن نخبرهم أن دبابات العدو في منطقة كذا مثلاً ، قد بدأت في التحرك باتجاههم ، وأصبحوا على مسافة كذا منهم ، فينسحبون في الوقت المناسب ، حتى لو لم تكتمل جميع مهام العملية . وكان رؤساء وحدات الاستطلاع يمرون عندنا باستمرار ، لمعرفة المواعيد السارية وقتها لدوريات العدو ، فيتمكنون من حساب التوقيتات المناسبة لتنفيذ عملياتهم .
ومع حلول منتصف عام 1969 م ، كنا قد أكملنا الإقفال على جميع شبكات الاتصال في فلسطين المحتلة ، بعد إضافة العديد من مراكز التصنت الجديدة . ومع الخبرة ، أصبحنا ننتخب أهم الشبكات لدى العدو ، فنكلف بطلاً واحداً بمتابعة ترددين أو أكثر فى وقت واحد ، وفى بعض الأوقات تكون الشبكة صامتة ، فيتابع شبكة ثالثة نشطة حتى تعود الأولى للعمل . فكان أغلب رجالنا أمامه جهازان أو أكثر ، يتم ضبط كل منها على الترددات المهمة وقتها . وذلك لتعويض نقص إمكانيتنا أمام تعدد شبكات العدو . وقد نستخدم أجهزة إضافية - إذا توفرت - للترددات الأقل أهمية.
وكان العدو يحاول تضليلنا ، بأن يعمل على شبكة معينة شهراً ، ثم يغير ترددها . وأحيانا يغير التردد كل خمسة عشر يوماً ، أو حتى كل أسبوع . أما الشبكات المهمة جداً ، فكانت تغير ترددها كل يوم تقريبا . لكن من متابعتنا لهم بتركيز شديد ، يكتسب كل واحد من أبطال التصنت ، خبرة ثمينة بشبكة معينة أو أكثر ، سواءً من نبرات صوت أحد مستعمليها ، أو من لغة مميزة لدى أحدهم ، أو من لازمة كلامية يستعملها باستمرار مثلاً ، فيتمكن من تمييز الشبكة ، وإمساكها مرة أخرى بسرعة وسهولة ، حال تجوله بين الموجات . وكانت هناك كتائب زميلة ، قائمة بالإعاقة والشوشرة على اتصالات العدو ، بالتوازي والتنسيق معنا . وكان أحد الزملاء من مندوبيهم مقيماً معنا بشكل دائم ، لتحديث قـيم الترددات لشبكات العدو ، وإبلاغها لباقي زملائه أولاً بأول .
وأذكر أنه جاءتنا تعليمات ، عند اغتيال الشهيد / عبد المنعم رياض رئيس أركان القوات الملسحة أثناء ذلك رحمه الله ، بالتصنت على شبكة قوات حفظ السلام الدولية ، لأنهم كانوا يستعملون نقاط ملاحظة خاصة بهم ، للإبلاغ إذا قام أحدُ الطرفين بانتهاك وقف إطلاق النار ، وما شابه ، وكان لدى القيادة شكٌ أنهم هم الذين أبلغوا الصهاينة بوجود قيادة كبيرة فى المنطقة . وفعلا أحضرنا أجهزة مماثلة للتى يعملون عليها ، وكانت بالنسبة لنا نوعية جديدة لم نرها من قبل ، ولكن عرفنا تالياً أنها مشابهة للمستخدمة لدى قواتنا الجوية ، وبدأنا المتابعة لشبكاتهم .
ومن الجدير بالذكر ، أن التعاون كان قائماً بيننا وبين الأشقاء في الأردن ، لأنهم قريبين من إيلات ، ومع الأشقاء في سوريا ، لأنهم قريبين من حيفا . فكانوا يضيفون لمعلوماتنا عن العدو . وإذا أفلت منا تردد معين لبحرية العدو مثلاً ، سألناهم عن القطعة التى غادرت ميناء كذا فى ساعة كذا ، فيخبروننا ، فنستطيع بتجميع المعلومات معاً ، إمساك الشبكة الهاربة .
ومن فضل الله علينا ، أن بعض أبطالنا ظلوا يعملون معي من قبل 1967 م ، حتى 1973 م . فتجمعت لدينا خبرات تراكمية وفيرة بحمد الله . وكان حملة ليسانس الآداب يأتون إلينا ضمن الخدمة الإلزامية أحياناً كجنود ، وأحيانا أخرى كضباط احتياط ، وعلى درجة عالية جداً من الكفاءة والجَلَد . فكنت أنا أتعب وأحتاج للراحة ولو ساعة أو نصف ساعة ، بينما كانوا هم لا يتعبون أبدا - بعون من الله بالتأكيد - ويستمرون في العمل بشكل متواصل . ورغم أنهم كانوا أسرع استيعاباً ، وأكثر كفاءة فى حصر الشبكات ، وعمل الإحصائيات لما يتابعونه ، إلا أن المجندين منهم كضباط احتياط ، كان يعملون معنا لعامين ، أما من يأتون منهم كجنود فيبقون معنا عاماً واحدً فقط - وفق نظام التجنيد - ثم يتركوننا عائدين إلى الحياة المدنية ، وقد رعتهم الدولة وفقها الله بعد الحرب ، فتم توظيفهم فى هيئة الإذاعة المصرية ، على كادر ضباط احتياط . ومازلت على اتصال بهم إلى الآن .
أما حملة المؤهلات المتوسطة ، فكنت أفرح بقدومهم أيضاً ، رغم أنهم ليسوا بنفس الجاهزية ، لأنهم يستمرون معنا عامين أيضاً .
- حرب رمضان / أكتوبر :
في عام 1970 م أُعِيدَ تنظيم الكتيبة ، لتصبح "فوج استطلاع لاسلكى" ، ثم أُعيد تنظيم الفوج فى منتصف 1973 م ، بتقسيمه إلى مستويات ، أولها تكتيكي تعبوي ، يتعامل مع قيادات الفرق . والثانى استراتيجى ، يتعامل مع القيادة العامة في القاهرة . وأصبحت أنا وفق ذلك ، مسؤولاً عن المستوى التكتيكى بالكامل . ولكن بعد ثلاثة أشهر ، تم ابتعاثي للاتحاد السوفييتي .
ولم ألحظ قبل مغادرتي الوحدة ، أي تغيير يمكن أن يشير إلى احتمالية وقوع حرب . اللهم إلا أن زميلي / محـمد الحسينى رفع طلباً إلى وزير الحربية (الدفاع حالياً) وقتها ، المشير / أحمد اسماعيل رحمه الله ، فى يناير 1973 م ، للسماح له بالزواج من روسية - لأن الزواج من أجنبيات محظور على العسكريين - فاستدعاه المشير ، واجتهد فى إقناعه بتأجيل زواجه مدة عام ، ولم نجد ساعتها سبباً لطلب التأجيل . لكني استشعرت شيئاً في الأفق ، عندما صدرت إعادة تنظيم جديدة للفوج ، دون وجود اسمي في التشكيل أصلاً ، مع أنني كنت رقم 02 في التشكيل السابق ، مما يدل على أنه قد تقرر نقلي ، فاستفسرت من قائدي / فؤاد نصار ، فقال لى : "رُوح قابل مدير المخابرات ، وافهم منه السبب" . وكنت أنا قبلها بفترة قد تقدمت لمسابقة داخلية في القوات المسلحة ، لترشيح ثمانية أو تسعة ضباط كمساعدين جددلملحقينا العسكرين في بعثاتنا الديبلوماسية ، فتقدم للمسابقة أكثر من ألف ضابط من مختلف التخصصات . وكان الامتحان صعباً جداً ، فتلاشى أملي في الترشّح مع كثرة المتقدمين وصعوبة الامتحان ، ونسيت الأمر . ولكن مديرالمخابرات علم أنه تم اختياري ، فلذلك لم يدرج اسمي في التشكيل الجديد . وحين تم اعتماد الأسماء ، اتصل بي زميلي / اسماعيل شوقى من إدارة المخابرات ، ليخبرني أن مدير الإدارة يستدعيني للمقابلة .
كنت أنا حينها برتبة مقدم ، فتوجست من حذف اسمي ، ومن الاستدعاء بعدها مباشرة ، ولم يكن هنالك مَفَرُّ من التلبية ، فذهبت في بداية شهر سبتمبر . وكنت أعرف المدير ويعرفني ، لأني خدمت معه حين كان برتبة عقيد . وهو الذي أرسلني سابقاً إلى اليمن ، فرحب بى ، وبشرني بأن درجاتي جاءت ممتازة في جميع المواد ما عدا اللغة الإنجليزية . فوعدته أن أعمل على تقوية نفسي فيها فوراً من اليوم ، وحتى موعد السفر . ثم سافرت للعمل مساعداً للملحق العسكري المصري ، بالاتحاد السوفيتى ، قبل الحرب بعشرة أيام فقط .
ولم ألحظ شيئاً غير طبيعي بعد وصولى لموسكو ، وبدأت الحرب فجأة وأنا هناك . وكانت صدمة بالنسبة لى ، لأنى أنا من حدَّد مواقع مراكز التصنّت ، وأنا الذي اخترت الرجال هناك ودربتهم ، وكنت أزورهم شهريا وأمضي معهم بعض الوقت ، وأشجعهم ، بدءاً من بورسعيد مروراً بالسويس ، وحتى الغردقة ، ثم أتجه إلى قنا ، وأعود بالقطار . وكنت أصافح كل واحدٍ من رجالي ، وأستمع لمشاكلهم اليومية المعتادة ، مثل ما يخص الوجبات ، والوقود ، والحماية ، والمياه ، ومشاكل مع رئيس الاستطلاع بسبب تأخر وصول المعلومات . وكان لكل موقع مشاكله ، فتم تعيين مساعد لقائد الفوج ، لحصر ومتابعة تلك المشاكل أولاً بأول .
وأصبحت أفكر كل يوم في رجالي ، وكيف أداؤهم فى المعركة ، وكنت خائفاً على كتيبة الدفرسوار خصوصاً ، لأنها قريبة من خط النار ، ومعرّضة بشدة للضرب ، والأجهزة ضخمة يسهل اكتشافها . فكنا دوما بين نارين ، إما أن نقرّب مراكز التصنت ، لكيلومتر أو كيلومترين من العدو - للحصول على أفضل نتائج - أو تتعرض المراكز لخطر الاكتشاف والإصابة المباشرة ، بأبسط أسلحة لدى العدو . وعرفت فيما بعد كيف أن رحمة ربي واسعة ، فقد حدث أن قوات إسرائيلية تسربت إلى الأدبية ، بالقرب من السويس الباسلة في حادثة الثغرة ، ولكنهم حين مروا بجوار كتيبة الاستطلاع الإليكتروني هناك ، لم يكتشفوا وجودها بحمد الله .
طبعا كنت سعيداً جداً فى بداية الحرب ، لكن التوتر الذي كان لا يزال سائداً وقتها بين مصر والاتحاد السوفيتي - منذ أن تم استبعاد خبرائهم - ألقى بظلاله على سرعة استجابتهم لمطالبنا من الأسلحة ، فكانوا مؤيدين لمصر فى الحرب ، وسعداء بالنتائج المصرية ، لأنها داعمة بشكل ضمني لسمعة السلاح السوفييتي مقابل السلاح الغربي في الأسواق العالمية ، ونكاية في الولايات المتحدة ، عدوهم التقليدي . لكنهم ظلوا حذرين بعض الشيء مع ذلك ، في تلبية مطالبنا لتعويض خسائر المعركة ، وخاصة في نوعيات معينة ، كالطائرات ، إذ طلبوا ثمنها نقداً . فبادر رئيس الجزائر الشقيقة "هواري بومدين" رحمه الله بالحضور إلى موسكو ، ودفع ثمنها مقدماً ، فلبوا لنا طلباتنا .
كان السوفييت ملتفين حولنا فى السفارة ، لاستطلاع الأخبار أولاً بأول ، وشعرنا بشيء من القلق حين حدثت الثغرة . لكن ثقتنا في الله أولاً ، ثم في أنفسنا ثانيا ، كانت أقوى . لعلمنا بأن جيشنا قد بذل أقصى جهد بشري ممكن فى الاستعداد للحرب ، على المستويات والأفرع جميعاً ، وليس فرع الاستطلاع فقط . وكانت التدريبات شاقة ومتواصلة ، لرفع مستوى الأداء ، حتى أصبح أبطالنا ينجزون فى أيامٍ معدودة ، ما يستغرق حسب المعدلات العادية شهراً أو شهرين ، وكان المصريون مضغوطين على مستوى البلد ككل ، ولم يكن أحدُ يتخيل - في الشرق أو في الغرب - أن يتم بناء القوات المسلحة من جديد ، بنسبة لا تتجاوز 60 إلى 70 % فقط من قوة الأفراد الأصلية ، وإنجاز هذا العمل العسكرى الكبير والمعجز ، فى ست سنوات فقط . ولله الحمد والمنة ، ثم الشكر لشعب مصر الصامد البطل .
ينبغي التنويه أيضاً - في ذات السياق - أن حرب الاستنزاف كانت جزءاً أساسياً من استعدادتنا للإنجاز الرئيسي ، وأن الاتحاد السوفييتي شارك في مرحلة منها بالخبراء ، وأعتقد أن أطقم دعم أرضي ، وطيارين سوفييت قد شاركوا بطائراتهم في الاشتباكات مع طائرات العدو فى الفترة بين 1970 و 1971 م . لكنهم سحبوا طياريهم وأطقمهم ، بعد ذلك ، وتركوا لدينا المعدات . وربما حصل ذلك بضغط من الولايات المتحدة ، لأن الدول الكبرى - كما نعلم - بينها توازنات وحسابات مختلفة عن حسابات غيرها .
أدى حصول الثغرة على الأرض إلى ثغرة أخرى في حائط دفاعاتنا الجوية ، وبعد الدعم الفوري اللا محدود بأحدث ما في الترسانة الأمريكية لإسرائيل من أسلحة غير مسبوقة - كالقنابل التلفزيونية وغيرها - أصبح طيران العدو قادرا على الوصول إلى داخل الأراضي المصرية ، إما بالنفاذ عبر ثغرة الدفاع الجوي على خط الجبهة الشرقية ، أو بالالتفاف عبر دائرة خارج نطاق دفاعاتنا الجوية ، فوق البحر الأبيض المتوسط . وأظهر الدبلوماسيون السوفييت تخوَّفهم من انقطاع خطوط إمداد الجيش الثالث بسبب الثغرة ، لكننا كنا نطمئنهم أن طريق العين السخنة صالح لإمداد رجالنا رغم كونه يستغرق وقتاً أطول . والحمد لله أن الأمور تحسنت بسرعة ، وتجاوز الجيش الثالث تلك المشكلة ، مع وقف إطلاق النار ، واستطاع إنهاءها بنتائج طيبة ، وخرجنا من الحرب منتصرين ، بدليل أن إسرائيل قبلت انسحاب قواتها راغمة ، فلو كانت تشعر أنها فى مركز قوة ، ما كانت انسحبت أبداً ، وأعتقد أن ما استقر عليه رأي الرئيس السادات أغلبية كبار قادة الجيش ، من التشبث بالضفة الشرقية ، وعدم الانسحاب إلى الغرب أثناء الثغرة ، كانت نتائجه على الأرض في صالح مصر ، بحمد الله تعالى . مع العلم أنه كان يمكن إبادة قوات العدو في الثغرة بالكامل ، لكن المجتمع الدولى لم يكن ليقبل بمثل تلك الخسارة الفادحة ، والهزيمة النكراء لإسرائيل ، فاضطر الصهاينة لسحب قواتهم راغمين ، تلافيا لبديل أشد مرارة .
لما كنت شريكاً - وفق عملي الجديد - في المسؤولية عن مشترياتنا العسكرية من الاتحاد السوفييتي ، قبل الحرب ، فقد تعاملت أثناءها مع متطلبات ما يقرب من عشرين هيئة وفرع في قواتنا المسلحة ، فكنت الوسيط مع الجهات البائعة هناك في الفترة من 1973 إلى 1975 م .
وعدت بعد الحرب من الاتحاد السوفييتي إلى فرع الاستطلاع ، الذي كان قد أصبح تابعاً لـ "إدارة الحرب الإليكترونية" ، فبحثت عن وظيفه تلائم وضعي كـرقم 02 فى كتيبة الاستطلاع الالكترونى الرئيسية سابقاً ، ولكن وجدت الوظائف مشغولة ، إلا أن اسماعيل شوقي ، قائدي قبل سفري - وكان مرشحاً لرئاسة أكاديمية ناصر - قد تم تعيينه رئيساً لفرع تخطيط العمليات فى الإدارة بدلاً من ذلك ، وتعليق عمل الأكاديمية ، لحين توافر من يصلح لتولي قيادة الأكاديمية . فتطوع هو بإخبارهم عني ، وأنني قادر على تغطية المكان ، فتم تأجيل الأمر حتى عودتى من الاتحاد السوفييتي .
لكن حين عدت ، تم تعييني رئيساً لفرع تخطيط العمليات بإدارة الحرب الإلكترونية . وكان منصباً صعباً بالنسبة لضابط مثلي برتبة مقدم ، بينما رؤساء الأفرع كلهم وقتها عمداء . وكانوا يتعجبون أن أهم منصب فى الإدارة ، يأتى مقدم من خارجها ليتولاه . فكان العمل فى وسط أشواك ، ولكني بذلت جهداً كبيرا وفقني الله فيه للتغلب على ما واجهني من صعاب .
وامتدت خدمتي في إدارة الحرب الإلكترونية خمس سنوات ، توليت خلالها عدة مناصب ، منها مدير فرع الحرب الإلكترونية بالجيش الثانى في الاسماعيلية ، ومدير إدارة التدريب في إدارة الحرب الإلكترونية . وكان منصبي كرئيس لفرع تخطيط العمليات فى إدارة الحرب الإلكترونية هو أهم منصب فى الإدارة بعد المدير ثم رئيس الأركان ، وكنت أقوم بعرض خطط العمليات أمام المشير الجمسي رحمه الله شخصيا ، وأمام كل الصف الأول من قيادات الجيش . فكان ذلك شرفاً عظيماً لي بحمد الله ، ومفتاحاً للشهرة بين القيادات العليا كذلك .
وفي عام 1980 م انتقلت إلى الأكاديمية ، وحين تخرجت منها ، دخلت طريقاً آخر بعيداً عن الحرب الإلكترونية ، هو مركز الدراسات الاستراتيجية للقوات المسلحة . وكان به قسم للدراسات الاقتصادية ، يحتاج لضابط حاصل على دكتوراه فى الاقتصاد ، ليتولى قيادته . ولم يكن متوفراً - بالقوات المسلحه كلها - أى زميل حاصل على دكتوراه فى الاقتصاد سواي ، فـتوجهت للمركـز للحصول على الوظيفة ، وفى عام 1988م أصبحت مديراً لمركز الدراسات الاستراتيجية للقوات المسلحة .
أذكر من الأمور التي جرت دراستها في المركز خلال فترة عملي فيه : الأمن الغذائي ، والأمن المائي ، ومكافحة الإرهاب ، فضلا عن أمور التسليح طبعا ، وجميعها أمور لها من أبعاد متعددة تؤثر بلا شك على الأمن القومي . وتقاعدت في عام 1993 م .
وفي الختام ، أحب أن أتحدث إليك عزيزي القارئ ، وأبنائي الشباب خصوصاً ، أنني - بحمد الله - لا أشعر بالندم على شىء مما مضى من حياتي ، وأن أعمالى خلال فترة خدمتي ، كانت مشرفة وتضمنت ترقيات لأننى كنت أراعى الله تعالى في عملي ، وفي رجالي ، ولا اعتبار عندي للوسائط ( معرفة أو قرابة بعض الأفراد ، بشخصيات هامة أو مرموقة ) ، ومن ذلك أنه كانت هناك بعض الأماكن الخطيره ، مثل القنطرة غرب مثلاً ، فكنت أحيانا أرسل المجند من رجالي إليها ، فيستشهد في اليوم التالي ، فكنت أراعى المناوبة فيها بين رجالي جميعا دون تمييز لأحد منهم فيخدم كل فرد في مكانه ستة أشهر من مدته ، ثم أنقله إلى غيرها بالتناوب .
وأذكر أنني شعرت بضرورة منح علاوة لجنودي من حملة ليسانس اللغة العبرية ، وليسانس اللغة الإنجليزية ، بقيمة جنيه واحد تقريبا ، لكل منهم ، ولكن قائدنا العميد / شوقى كان رافضا باستمرار لذلك . ولما مل من إلحاحي ، نصحني بالتوجه إلى زميله يرتبة عميد أيضاً في هيئة التنظيم والإدارة ، وفعلا توجهت لمقابلته ، فرفض هو الآخر بفظاظة . ولأننا تعلمنا الاحترام فى الجيش ، وعدم رد الإساءة بمثلها ، فقد حاولت الإيضاح أنني لو لم أكن محتاجاً لزيادة رواتب جنودي ، ما كنت أثقلت عليه ، وأننا في حالة حرب ، فيمكن التجاوز البسيط للمصلحة العامة ، وأنه لا يجوز التفرقة بين فردين يقومان بنفس العمل ، لأن أحدهما يخدم كضابط احتياط والآخر يخدم كجندي فقط ، وهما على نفس المؤهل ، فيجب مراضاة الجميع ، لأن الجندي - فى المعركة - هو حياتها ، وروحها ، وعمود الحرب كلها ، وأن المبلغ الإجمالي - من وجهة نظري - بسيط لا يستحق . وتجاوب هو مع أسلوبي ، فهدّأ من أسلوبه في الحديث ، وشرح لى أن ذلك الأمر قد سبقت دراسته آنفاً ، وممنوع بقرار جمهوري .
ولكنني لم أيأس ، وكان المبلغ المطلوب عشرين إلى ثلاثين جنيها ، بعدد جنودي من حملة الليسانس شهريا ، فسعيت لصرفه من بند "مصروفات عامة" لكتيبة المخابرت الحربية ، وتم ذلك فعلاً ، بحمد الله .
وأود أن أخبر أبنائي من الشباب ، أن مصر - بعون الله - قادرة على تذليل الصعاب ، وإنجاز المستحيل . وأننا رأينا قبل ذلك ، ظروفاً مشابهة لظروفنا الآن ، لكننا كنا مخلصين في حب وطننا ، متفانين في خدمته ، ومنا من قضى سنين طويلة بأكملها - من أحلى فترات عمره - بعيدا عن أسرته ، في حرب اليمن مثلاً ، أو على الجبهة ، في التدريب على مهام المعركة المقبلة ، من أجل ذلك الوطن .
كما أود أن أخبر أبنائي الشباب أيضاً أن مشوار حصولي على الدكتوراه قد استغرق خمسة عشر عاماً ، منذ 1960 م ، إلى 1975 م ، وكانت معظم إقامتي خلالها في جبل "جنيفة" ، وكنت أنزل يومي الخميس والجمعة فقط من كل أسبوع ، ومشيت فى كل الظروف السيئة داخل القوات المسلحة ، من النكسة ، وظروف الاستعداد للحرب ، للحصول على تعليم بمستوى رفيع ، وتُوِّج ذلك بالدكتوراه ، ولم يكن لدي وقتٌ كافٍ للدراسة ، ولكن حُبى للعلم ، جعلني أتغلب على كل ما يمكن أن يشغلني عنهُ . ورغم أني متزوج ، وعندى أولاد بحمد الله ، إلا أنني كنت أقضي معظم وقتى فى الجيش ، ولو حصل عندي ساعة أو ساعتان من الفراغ ، كنت استفيد منهما في البحث عن كتاب قيِّم ، أو محاضرة فاتتنى ، لأستمع إليها . فجعلنا حبُّ الوطن ، نتجاوز كل الشواغل ، بل حتى متع الحياة ، ونمارس عملنا بِحُب ، ونسعد جداً عندما نحصل على معلومة قد ينفع الله بها الوطن ، ونتابع زملاءنا القائمين بعمل الأكمنة خلف خطوط العدو بسيناء - على اللاسلكي - كأننا معهم نحرسهم ، لإيمانننا أنهم هم من سيصنعون النصر ، ونشعر أن مسؤليتهم فى رقابنا .
في ندوة نظمتها كلية التربية بجامعة الإسكندرية ، وتشرفت بالحديث فيها عن الترفيه فى القوات المسلحة ، قلت إن الترفيه فى فترة حرب الاستنزاف ، لم يكن مشاهدة السينما ولا مباريات الكرة على التلفاز ، وإنما كان هو التنافس بين الجيشين الثانى والثالث ، في القيام بعمليات في قلب خطوط الصهاينة ، والعودة سالمين بأسير صهيوني أو أكثر غير مصابين . فكان الترفيه بالنسبة لنا في حقيقته ، تنافساً على الموت . وكان لى في أكثر من مناسبة ، شرف الجلوس مع إخوتي وأبنائي من الضباط والجنود لأخبرهم أنهم فخر لمصر ، وأقول لهم : "أنتم من حفظ الله بكم الوطن ، وأنتم من تحملون راية بناء مصر الحديثة الآن" ، ويجب على الجميع - مدنيين وعسكريين - أن يعلموا هذا ، وهو قدرمكتوب على خير أجناد الأرض ، وهم أهلٌ له بإذن الله .
ويؤسفني جداً أنني شاهدت فى إحدى المرات ، برنامجاً في التلفاز يولول مقدمه ، كأنه في كارثة - لا قدّر الله - أن السوبر ماركت ( البقالة ) يسمح بكيلوجرامين فقط من السكر لكل عميل ، وفي وقت مقارب لذلك كنت حاضراً في حفل تكريم بجامعة عين شمس ، فرأيت وسمعت رئيس الجامعة وقتها واقفاً يقول : "كنت أثناء حرب الاستنزاف أقف في طابور طويل لشراء ( دجاجة ) لأسرتي" ، رأيته يقول ذلك وهو رئيس جامعة . فأين من يختلقون أزمة بسبب مشكلة مؤقتة في السكر من مثل هؤلاء الرجال ؟ .
لقد كان هنالك عجزٌ فى الأرز ، والسكر ، واللحم ، وكافة المواد التموينية ، طوال فترة الاستنزاف ، وكنا مع ذلك نعيش سعداء . ولم يشترِ أحدٌ من الناس - حسب علمي - طوال فترة حرب رمضان / أكتوبر 73 أي مواد تموينية بهدف التخزين . وأعرف سائقَ أجرةٍ ، أَوْصَل ضابطاً من العباسية إلى الهايكستب ، ورفض أن يتقاضى أجرته عن ذلك ، لأن إحساسه بأهمية نقل ضابط أو جندي لمكان عمله ، ومساعدته في أداء واجبه وقت الحرب ، كان أهم عنده من النقود . وأتذكر جيداً أنه لم يتم تسجيل أى جرائم فى أى مكان بمصر طوال أيام الحرب . لكن الإعلامي المُغرض يوحي للناس بأن القيامة قد قامت من أجل كيلو سكر إضافي . وفي الحقيقة فإنني لا أعرف كيف أصفُ أمثالَ هؤلاء ، وأشعر بالأسى نحو تفريطهم تجاه وطنهم ، وأقول للجميع : "اتقوا الله فى جيشكم ، وفي شرطتكم ، فإنهم يسهرون ويُضحّون بأرواحهم من أجل أمنكم وسلامتكم ، وهي نعمة - لو تعلمون - من أجَلّ النعم" .
ومن وجهة نظري ، فإنني إذا كنت وطنياً فعلاً ، فلا يمكن ان أقول للجيش أو للشرطة - ونحن فى قلب المعركة - إنه ثَمّ تقصيرٌ أو أخطاء لديهم ، لأن ضابط الجيش أو الشرطة بالتأكيد ، لا يخرج من بيته راغباً في ارتكابِ خطأٍ يودِي بحياته . فكل إنسان يحب بالتأكيد أن يبقى حياً ، ليتمتع بأسرته ويشاهد أولاده وهم يكْـبُرون بين يديه . فأتمنى من الناس أن يحبوا مصرَ فعلياُ قدر استطاعتهم ، وأن يقفوا بجانب جيشهم وشرطتهم ، الذين يُسْتَشهَد منهم في كل يومٍ ، فردٌ أو أفرادٌ جدد ، وهم يؤدون واجبهم . وكل بطلٍ منهم يخرج من بيتِه صباحاً أو مساءً ، وهو لا يعرف هل سيعود إليه ، أم لا ؟.
وأعود إلى ذكرياتي قبل حرب رمضان أكتوبر المجيدة ، حين تولى المشير / الجمسي رحمه الله ، رئاسة هيئة العمليات بالقوات المسلحة ، وهو يعلم بالتأكيد ، أن الجيش غير جاهز بشكلٍ كافٍ للحرب . فقام أولاً مع ضباطه في هيئة العمليات ، بوضع قائمة لكافة المشكلات المطلوب حلها ، كي تتمكن قواتنا المسلحة من عبور قناه السويس ، ومواصلة القتال بنجاح حتى النصر بإذن الله تعالى . فدرسوا كل مشكلة على حدةٍ ، بدءاً من طريقة الهجوم ، والوقت المناسب لذلك ، وكيفية التعاون بين الجيش المصرى والجيش السورى ، وعمل سيناريوهات أساسية وبديلة لحل كل مشكلة . ثم قاموا بتجميع الحلول في سيناريوهات شاملة ، أساسية وبديلة للحرب ، فكان مجهوداً كبيراً يفوق الوصف . لأن الاستعداد لم يبدأ من الصفر فقط ، وإنما من تحت الصفر .
وإنه لإعجاز أن يتم ذلك فى ست سنوات فقط ، للدخول بتلك الحرب الكبيرة ذات النتائج العظيمة . وليس لذلك تفسيرٌ ، إلا أن الله سبحانه وتعالى كان معنا ، ثم الخطط الفذّة ، التي رُسمت ، والجهود الرهيبة التي بُذلت لرفع الروح المعنوية ، وخداع العدو ، في نفس الوقت الذي تجري فيه الاستعدادات والتدريبات على أشدها ، وبكامل الطاقة ، للحرب ، وهو ما يحتاج لجلسات مستقلة لشرحه في الحقيقة .
* * *
تم التسجيل بمقر المجموعة 73 مؤرخين في القاهرة
حضر التسجيل : أستاذ / أحمد زايد .
: أستاذ / مصطفى نقراشى .
: أستاذ / مصطفى طولان .
: أستاذ / حسن الحلو .
قام بالتفريغ :
مراجعة لغوية : مهندس / عبدالناصر محـمد المرابط .
المصدر مجموعة 73 مؤرخين
ولم ألحظ قبل مغادرتي الوحدة ، أي تغيير يمكن أن يشير إلى احتمالية وقوع حرب . اللهم إلا أن زميلي / محـمد الحسينى رفع طلباً إلى وزير الحربية (الدفاع حالياً) وقتها ، المشير / أحمد اسماعيل رحمه الله ، فى يناير 1973 م ، للسماح له بالزواج من روسية - لأن الزواج من أجنبيات محظور على العسكريين - فاستدعاه المشير ، واجتهد فى إقناعه بتأجيل زواجه مدة عام ، ولم نجد ساعتها سبباً لطلب التأجيل . لكني استشعرت شيئاً في الأفق ، عندما صدرت إعادة تنظيم جديدة للفوج ، دون وجود اسمي في التشكيل أصلاً ، مع أنني كنت رقم 02 في التشكيل السابق ، مما يدل على أنه قد تقرر نقلي ، فاستفسرت من قائدي / فؤاد نصار ، فقال لى : "رُوح قابل مدير المخابرات ، وافهم منه السبب" . وكنت أنا قبلها بفترة قد تقدمت لمسابقة داخلية في القوات المسلحة ، لترشيح ثمانية أو تسعة ضباط كمساعدين جددلملحقينا العسكرين في بعثاتنا الديبلوماسية ، فتقدم للمسابقة أكثر من ألف ضابط من مختلف التخصصات . وكان الامتحان صعباً جداً ، فتلاشى أملي في الترشّح مع كثرة المتقدمين وصعوبة الامتحان ، ونسيت الأمر . ولكن مديرالمخابرات علم أنه تم اختياري ، فلذلك لم يدرج اسمي في التشكيل الجديد . وحين تم اعتماد الأسماء ، اتصل بي زميلي / اسماعيل شوقى من إدارة المخابرات ، ليخبرني أن مدير الإدارة يستدعيني للمقابلة .
كنت أنا حينها برتبة مقدم ، فتوجست من حذف اسمي ، ومن الاستدعاء بعدها مباشرة ، ولم يكن هنالك مَفَرُّ من التلبية ، فذهبت في بداية شهر سبتمبر . وكنت أعرف المدير ويعرفني ، لأني خدمت معه حين كان برتبة عقيد . وهو الذي أرسلني سابقاً إلى اليمن ، فرحب بى ، وبشرني بأن درجاتي جاءت ممتازة في جميع المواد ما عدا اللغة الإنجليزية . فوعدته أن أعمل على تقوية نفسي فيها فوراً من اليوم ، وحتى موعد السفر . ثم سافرت للعمل مساعداً للملحق العسكري المصري ، بالاتحاد السوفيتى ، قبل الحرب بعشرة أيام فقط .
ولم ألحظ شيئاً غير طبيعي بعد وصولى لموسكو ، وبدأت الحرب فجأة وأنا هناك . وكانت صدمة بالنسبة لى ، لأنى أنا من حدَّد مواقع مراكز التصنّت ، وأنا الذي اخترت الرجال هناك ودربتهم ، وكنت أزورهم شهريا وأمضي معهم بعض الوقت ، وأشجعهم ، بدءاً من بورسعيد مروراً بالسويس ، وحتى الغردقة ، ثم أتجه إلى قنا ، وأعود بالقطار . وكنت أصافح كل واحدٍ من رجالي ، وأستمع لمشاكلهم اليومية المعتادة ، مثل ما يخص الوجبات ، والوقود ، والحماية ، والمياه ، ومشاكل مع رئيس الاستطلاع بسبب تأخر وصول المعلومات . وكان لكل موقع مشاكله ، فتم تعيين مساعد لقائد الفوج ، لحصر ومتابعة تلك المشاكل أولاً بأول .
وأصبحت أفكر كل يوم في رجالي ، وكيف أداؤهم فى المعركة ، وكنت خائفاً على كتيبة الدفرسوار خصوصاً ، لأنها قريبة من خط النار ، ومعرّضة بشدة للضرب ، والأجهزة ضخمة يسهل اكتشافها . فكنا دوما بين نارين ، إما أن نقرّب مراكز التصنت ، لكيلومتر أو كيلومترين من العدو - للحصول على أفضل نتائج - أو تتعرض المراكز لخطر الاكتشاف والإصابة المباشرة ، بأبسط أسلحة لدى العدو . وعرفت فيما بعد كيف أن رحمة ربي واسعة ، فقد حدث أن قوات إسرائيلية تسربت إلى الأدبية ، بالقرب من السويس الباسلة في حادثة الثغرة ، ولكنهم حين مروا بجوار كتيبة الاستطلاع الإليكتروني هناك ، لم يكتشفوا وجودها بحمد الله .
طبعا كنت سعيداً جداً فى بداية الحرب ، لكن التوتر الذي كان لا يزال سائداً وقتها بين مصر والاتحاد السوفيتي - منذ أن تم استبعاد خبرائهم - ألقى بظلاله على سرعة استجابتهم لمطالبنا من الأسلحة ، فكانوا مؤيدين لمصر فى الحرب ، وسعداء بالنتائج المصرية ، لأنها داعمة بشكل ضمني لسمعة السلاح السوفييتي مقابل السلاح الغربي في الأسواق العالمية ، ونكاية في الولايات المتحدة ، عدوهم التقليدي . لكنهم ظلوا حذرين بعض الشيء مع ذلك ، في تلبية مطالبنا لتعويض خسائر المعركة ، وخاصة في نوعيات معينة ، كالطائرات ، إذ طلبوا ثمنها نقداً . فبادر رئيس الجزائر الشقيقة "هواري بومدين" رحمه الله بالحضور إلى موسكو ، ودفع ثمنها مقدماً ، فلبوا لنا طلباتنا .
كان السوفييت ملتفين حولنا فى السفارة ، لاستطلاع الأخبار أولاً بأول ، وشعرنا بشيء من القلق حين حدثت الثغرة . لكن ثقتنا في الله أولاً ، ثم في أنفسنا ثانيا ، كانت أقوى . لعلمنا بأن جيشنا قد بذل أقصى جهد بشري ممكن فى الاستعداد للحرب ، على المستويات والأفرع جميعاً ، وليس فرع الاستطلاع فقط . وكانت التدريبات شاقة ومتواصلة ، لرفع مستوى الأداء ، حتى أصبح أبطالنا ينجزون فى أيامٍ معدودة ، ما يستغرق حسب المعدلات العادية شهراً أو شهرين ، وكان المصريون مضغوطين على مستوى البلد ككل ، ولم يكن أحدُ يتخيل - في الشرق أو في الغرب - أن يتم بناء القوات المسلحة من جديد ، بنسبة لا تتجاوز 60 إلى 70 % فقط من قوة الأفراد الأصلية ، وإنجاز هذا العمل العسكرى الكبير والمعجز ، فى ست سنوات فقط . ولله الحمد والمنة ، ثم الشكر لشعب مصر الصامد البطل .
ينبغي التنويه أيضاً - في ذات السياق - أن حرب الاستنزاف كانت جزءاً أساسياً من استعدادتنا للإنجاز الرئيسي ، وأن الاتحاد السوفييتي شارك في مرحلة منها بالخبراء ، وأعتقد أن أطقم دعم أرضي ، وطيارين سوفييت قد شاركوا بطائراتهم في الاشتباكات مع طائرات العدو فى الفترة بين 1970 و 1971 م . لكنهم سحبوا طياريهم وأطقمهم ، بعد ذلك ، وتركوا لدينا المعدات . وربما حصل ذلك بضغط من الولايات المتحدة ، لأن الدول الكبرى - كما نعلم - بينها توازنات وحسابات مختلفة عن حسابات غيرها .
أدى حصول الثغرة على الأرض إلى ثغرة أخرى في حائط دفاعاتنا الجوية ، وبعد الدعم الفوري اللا محدود بأحدث ما في الترسانة الأمريكية لإسرائيل من أسلحة غير مسبوقة - كالقنابل التلفزيونية وغيرها - أصبح طيران العدو قادرا على الوصول إلى داخل الأراضي المصرية ، إما بالنفاذ عبر ثغرة الدفاع الجوي على خط الجبهة الشرقية ، أو بالالتفاف عبر دائرة خارج نطاق دفاعاتنا الجوية ، فوق البحر الأبيض المتوسط . وأظهر الدبلوماسيون السوفييت تخوَّفهم من انقطاع خطوط إمداد الجيش الثالث بسبب الثغرة ، لكننا كنا نطمئنهم أن طريق العين السخنة صالح لإمداد رجالنا رغم كونه يستغرق وقتاً أطول . والحمد لله أن الأمور تحسنت بسرعة ، وتجاوز الجيش الثالث تلك المشكلة ، مع وقف إطلاق النار ، واستطاع إنهاءها بنتائج طيبة ، وخرجنا من الحرب منتصرين ، بدليل أن إسرائيل قبلت انسحاب قواتها راغمة ، فلو كانت تشعر أنها فى مركز قوة ، ما كانت انسحبت أبداً ، وأعتقد أن ما استقر عليه رأي الرئيس السادات أغلبية كبار قادة الجيش ، من التشبث بالضفة الشرقية ، وعدم الانسحاب إلى الغرب أثناء الثغرة ، كانت نتائجه على الأرض في صالح مصر ، بحمد الله تعالى . مع العلم أنه كان يمكن إبادة قوات العدو في الثغرة بالكامل ، لكن المجتمع الدولى لم يكن ليقبل بمثل تلك الخسارة الفادحة ، والهزيمة النكراء لإسرائيل ، فاضطر الصهاينة لسحب قواتهم راغمين ، تلافيا لبديل أشد مرارة .
لما كنت شريكاً - وفق عملي الجديد - في المسؤولية عن مشترياتنا العسكرية من الاتحاد السوفييتي ، قبل الحرب ، فقد تعاملت أثناءها مع متطلبات ما يقرب من عشرين هيئة وفرع في قواتنا المسلحة ، فكنت الوسيط مع الجهات البائعة هناك في الفترة من 1973 إلى 1975 م .
وعدت بعد الحرب من الاتحاد السوفييتي إلى فرع الاستطلاع ، الذي كان قد أصبح تابعاً لـ "إدارة الحرب الإليكترونية" ، فبحثت عن وظيفه تلائم وضعي كـرقم 02 فى كتيبة الاستطلاع الالكترونى الرئيسية سابقاً ، ولكن وجدت الوظائف مشغولة ، إلا أن اسماعيل شوقي ، قائدي قبل سفري - وكان مرشحاً لرئاسة أكاديمية ناصر - قد تم تعيينه رئيساً لفرع تخطيط العمليات فى الإدارة بدلاً من ذلك ، وتعليق عمل الأكاديمية ، لحين توافر من يصلح لتولي قيادة الأكاديمية . فتطوع هو بإخبارهم عني ، وأنني قادر على تغطية المكان ، فتم تأجيل الأمر حتى عودتى من الاتحاد السوفييتي .
لكن حين عدت ، تم تعييني رئيساً لفرع تخطيط العمليات بإدارة الحرب الإلكترونية . وكان منصباً صعباً بالنسبة لضابط مثلي برتبة مقدم ، بينما رؤساء الأفرع كلهم وقتها عمداء . وكانوا يتعجبون أن أهم منصب فى الإدارة ، يأتى مقدم من خارجها ليتولاه . فكان العمل فى وسط أشواك ، ولكني بذلت جهداً كبيرا وفقني الله فيه للتغلب على ما واجهني من صعاب .
وامتدت خدمتي في إدارة الحرب الإلكترونية خمس سنوات ، توليت خلالها عدة مناصب ، منها مدير فرع الحرب الإلكترونية بالجيش الثانى في الاسماعيلية ، ومدير إدارة التدريب في إدارة الحرب الإلكترونية . وكان منصبي كرئيس لفرع تخطيط العمليات فى إدارة الحرب الإلكترونية هو أهم منصب فى الإدارة بعد المدير ثم رئيس الأركان ، وكنت أقوم بعرض خطط العمليات أمام المشير الجمسي رحمه الله شخصيا ، وأمام كل الصف الأول من قيادات الجيش . فكان ذلك شرفاً عظيماً لي بحمد الله ، ومفتاحاً للشهرة بين القيادات العليا كذلك .
وفي عام 1980 م انتقلت إلى الأكاديمية ، وحين تخرجت منها ، دخلت طريقاً آخر بعيداً عن الحرب الإلكترونية ، هو مركز الدراسات الاستراتيجية للقوات المسلحة . وكان به قسم للدراسات الاقتصادية ، يحتاج لضابط حاصل على دكتوراه فى الاقتصاد ، ليتولى قيادته . ولم يكن متوفراً - بالقوات المسلحه كلها - أى زميل حاصل على دكتوراه فى الاقتصاد سواي ، فـتوجهت للمركـز للحصول على الوظيفة ، وفى عام 1988م أصبحت مديراً لمركز الدراسات الاستراتيجية للقوات المسلحة .
أذكر من الأمور التي جرت دراستها في المركز خلال فترة عملي فيه : الأمن الغذائي ، والأمن المائي ، ومكافحة الإرهاب ، فضلا عن أمور التسليح طبعا ، وجميعها أمور لها من أبعاد متعددة تؤثر بلا شك على الأمن القومي . وتقاعدت في عام 1993 م .
وفي الختام ، أحب أن أتحدث إليك عزيزي القارئ ، وأبنائي الشباب خصوصاً ، أنني - بحمد الله - لا أشعر بالندم على شىء مما مضى من حياتي ، وأن أعمالى خلال فترة خدمتي ، كانت مشرفة وتضمنت ترقيات لأننى كنت أراعى الله تعالى في عملي ، وفي رجالي ، ولا اعتبار عندي للوسائط ( معرفة أو قرابة بعض الأفراد ، بشخصيات هامة أو مرموقة ) ، ومن ذلك أنه كانت هناك بعض الأماكن الخطيره ، مثل القنطرة غرب مثلاً ، فكنت أحيانا أرسل المجند من رجالي إليها ، فيستشهد في اليوم التالي ، فكنت أراعى المناوبة فيها بين رجالي جميعا دون تمييز لأحد منهم فيخدم كل فرد في مكانه ستة أشهر من مدته ، ثم أنقله إلى غيرها بالتناوب .
وأذكر أنني شعرت بضرورة منح علاوة لجنودي من حملة ليسانس اللغة العبرية ، وليسانس اللغة الإنجليزية ، بقيمة جنيه واحد تقريبا ، لكل منهم ، ولكن قائدنا العميد / شوقى كان رافضا باستمرار لذلك . ولما مل من إلحاحي ، نصحني بالتوجه إلى زميله يرتبة عميد أيضاً في هيئة التنظيم والإدارة ، وفعلا توجهت لمقابلته ، فرفض هو الآخر بفظاظة . ولأننا تعلمنا الاحترام فى الجيش ، وعدم رد الإساءة بمثلها ، فقد حاولت الإيضاح أنني لو لم أكن محتاجاً لزيادة رواتب جنودي ، ما كنت أثقلت عليه ، وأننا في حالة حرب ، فيمكن التجاوز البسيط للمصلحة العامة ، وأنه لا يجوز التفرقة بين فردين يقومان بنفس العمل ، لأن أحدهما يخدم كضابط احتياط والآخر يخدم كجندي فقط ، وهما على نفس المؤهل ، فيجب مراضاة الجميع ، لأن الجندي - فى المعركة - هو حياتها ، وروحها ، وعمود الحرب كلها ، وأن المبلغ الإجمالي - من وجهة نظري - بسيط لا يستحق . وتجاوب هو مع أسلوبي ، فهدّأ من أسلوبه في الحديث ، وشرح لى أن ذلك الأمر قد سبقت دراسته آنفاً ، وممنوع بقرار جمهوري .
ولكنني لم أيأس ، وكان المبلغ المطلوب عشرين إلى ثلاثين جنيها ، بعدد جنودي من حملة الليسانس شهريا ، فسعيت لصرفه من بند "مصروفات عامة" لكتيبة المخابرت الحربية ، وتم ذلك فعلاً ، بحمد الله .
وأود أن أخبر أبنائي من الشباب ، أن مصر - بعون الله - قادرة على تذليل الصعاب ، وإنجاز المستحيل . وأننا رأينا قبل ذلك ، ظروفاً مشابهة لظروفنا الآن ، لكننا كنا مخلصين في حب وطننا ، متفانين في خدمته ، ومنا من قضى سنين طويلة بأكملها - من أحلى فترات عمره - بعيدا عن أسرته ، في حرب اليمن مثلاً ، أو على الجبهة ، في التدريب على مهام المعركة المقبلة ، من أجل ذلك الوطن .
كما أود أن أخبر أبنائي الشباب أيضاً أن مشوار حصولي على الدكتوراه قد استغرق خمسة عشر عاماً ، منذ 1960 م ، إلى 1975 م ، وكانت معظم إقامتي خلالها في جبل "جنيفة" ، وكنت أنزل يومي الخميس والجمعة فقط من كل أسبوع ، ومشيت فى كل الظروف السيئة داخل القوات المسلحة ، من النكسة ، وظروف الاستعداد للحرب ، للحصول على تعليم بمستوى رفيع ، وتُوِّج ذلك بالدكتوراه ، ولم يكن لدي وقتٌ كافٍ للدراسة ، ولكن حُبى للعلم ، جعلني أتغلب على كل ما يمكن أن يشغلني عنهُ . ورغم أني متزوج ، وعندى أولاد بحمد الله ، إلا أنني كنت أقضي معظم وقتى فى الجيش ، ولو حصل عندي ساعة أو ساعتان من الفراغ ، كنت استفيد منهما في البحث عن كتاب قيِّم ، أو محاضرة فاتتنى ، لأستمع إليها . فجعلنا حبُّ الوطن ، نتجاوز كل الشواغل ، بل حتى متع الحياة ، ونمارس عملنا بِحُب ، ونسعد جداً عندما نحصل على معلومة قد ينفع الله بها الوطن ، ونتابع زملاءنا القائمين بعمل الأكمنة خلف خطوط العدو بسيناء - على اللاسلكي - كأننا معهم نحرسهم ، لإيمانننا أنهم هم من سيصنعون النصر ، ونشعر أن مسؤليتهم فى رقابنا .
في ندوة نظمتها كلية التربية بجامعة الإسكندرية ، وتشرفت بالحديث فيها عن الترفيه فى القوات المسلحة ، قلت إن الترفيه فى فترة حرب الاستنزاف ، لم يكن مشاهدة السينما ولا مباريات الكرة على التلفاز ، وإنما كان هو التنافس بين الجيشين الثانى والثالث ، في القيام بعمليات في قلب خطوط الصهاينة ، والعودة سالمين بأسير صهيوني أو أكثر غير مصابين . فكان الترفيه بالنسبة لنا في حقيقته ، تنافساً على الموت . وكان لى في أكثر من مناسبة ، شرف الجلوس مع إخوتي وأبنائي من الضباط والجنود لأخبرهم أنهم فخر لمصر ، وأقول لهم : "أنتم من حفظ الله بكم الوطن ، وأنتم من تحملون راية بناء مصر الحديثة الآن" ، ويجب على الجميع - مدنيين وعسكريين - أن يعلموا هذا ، وهو قدرمكتوب على خير أجناد الأرض ، وهم أهلٌ له بإذن الله .
ويؤسفني جداً أنني شاهدت فى إحدى المرات ، برنامجاً في التلفاز يولول مقدمه ، كأنه في كارثة - لا قدّر الله - أن السوبر ماركت ( البقالة ) يسمح بكيلوجرامين فقط من السكر لكل عميل ، وفي وقت مقارب لذلك كنت حاضراً في حفل تكريم بجامعة عين شمس ، فرأيت وسمعت رئيس الجامعة وقتها واقفاً يقول : "كنت أثناء حرب الاستنزاف أقف في طابور طويل لشراء ( دجاجة ) لأسرتي" ، رأيته يقول ذلك وهو رئيس جامعة . فأين من يختلقون أزمة بسبب مشكلة مؤقتة في السكر من مثل هؤلاء الرجال ؟ .
لقد كان هنالك عجزٌ فى الأرز ، والسكر ، واللحم ، وكافة المواد التموينية ، طوال فترة الاستنزاف ، وكنا مع ذلك نعيش سعداء . ولم يشترِ أحدٌ من الناس - حسب علمي - طوال فترة حرب رمضان / أكتوبر 73 أي مواد تموينية بهدف التخزين . وأعرف سائقَ أجرةٍ ، أَوْصَل ضابطاً من العباسية إلى الهايكستب ، ورفض أن يتقاضى أجرته عن ذلك ، لأن إحساسه بأهمية نقل ضابط أو جندي لمكان عمله ، ومساعدته في أداء واجبه وقت الحرب ، كان أهم عنده من النقود . وأتذكر جيداً أنه لم يتم تسجيل أى جرائم فى أى مكان بمصر طوال أيام الحرب . لكن الإعلامي المُغرض يوحي للناس بأن القيامة قد قامت من أجل كيلو سكر إضافي . وفي الحقيقة فإنني لا أعرف كيف أصفُ أمثالَ هؤلاء ، وأشعر بالأسى نحو تفريطهم تجاه وطنهم ، وأقول للجميع : "اتقوا الله فى جيشكم ، وفي شرطتكم ، فإنهم يسهرون ويُضحّون بأرواحهم من أجل أمنكم وسلامتكم ، وهي نعمة - لو تعلمون - من أجَلّ النعم" .
ومن وجهة نظري ، فإنني إذا كنت وطنياً فعلاً ، فلا يمكن ان أقول للجيش أو للشرطة - ونحن فى قلب المعركة - إنه ثَمّ تقصيرٌ أو أخطاء لديهم ، لأن ضابط الجيش أو الشرطة بالتأكيد ، لا يخرج من بيته راغباً في ارتكابِ خطأٍ يودِي بحياته . فكل إنسان يحب بالتأكيد أن يبقى حياً ، ليتمتع بأسرته ويشاهد أولاده وهم يكْـبُرون بين يديه . فأتمنى من الناس أن يحبوا مصرَ فعلياُ قدر استطاعتهم ، وأن يقفوا بجانب جيشهم وشرطتهم ، الذين يُسْتَشهَد منهم في كل يومٍ ، فردٌ أو أفرادٌ جدد ، وهم يؤدون واجبهم . وكل بطلٍ منهم يخرج من بيتِه صباحاً أو مساءً ، وهو لا يعرف هل سيعود إليه ، أم لا ؟.
وأعود إلى ذكرياتي قبل حرب رمضان أكتوبر المجيدة ، حين تولى المشير / الجمسي رحمه الله ، رئاسة هيئة العمليات بالقوات المسلحة ، وهو يعلم بالتأكيد ، أن الجيش غير جاهز بشكلٍ كافٍ للحرب . فقام أولاً مع ضباطه في هيئة العمليات ، بوضع قائمة لكافة المشكلات المطلوب حلها ، كي تتمكن قواتنا المسلحة من عبور قناه السويس ، ومواصلة القتال بنجاح حتى النصر بإذن الله تعالى . فدرسوا كل مشكلة على حدةٍ ، بدءاً من طريقة الهجوم ، والوقت المناسب لذلك ، وكيفية التعاون بين الجيش المصرى والجيش السورى ، وعمل سيناريوهات أساسية وبديلة لحل كل مشكلة . ثم قاموا بتجميع الحلول في سيناريوهات شاملة ، أساسية وبديلة للحرب ، فكان مجهوداً كبيراً يفوق الوصف . لأن الاستعداد لم يبدأ من الصفر فقط ، وإنما من تحت الصفر .
وإنه لإعجاز أن يتم ذلك فى ست سنوات فقط ، للدخول بتلك الحرب الكبيرة ذات النتائج العظيمة . وليس لذلك تفسيرٌ ، إلا أن الله سبحانه وتعالى كان معنا ، ثم الخطط الفذّة ، التي رُسمت ، والجهود الرهيبة التي بُذلت لرفع الروح المعنوية ، وخداع العدو ، في نفس الوقت الذي تجري فيه الاستعدادات والتدريبات على أشدها ، وبكامل الطاقة ، للحرب ، وهو ما يحتاج لجلسات مستقلة لشرحه في الحقيقة .
* * *
تم التسجيل بمقر المجموعة 73 مؤرخين في القاهرة
حضر التسجيل : أستاذ / أحمد زايد .
: أستاذ / مصطفى نقراشى .
: أستاذ / مصطفى طولان .
: أستاذ / حسن الحلو .
قام بالتفريغ :
مراجعة لغوية : مهندس / عبدالناصر محـمد المرابط .
المصدر مجموعة 73 مؤرخين